للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الإسلامية، واستنتج من ذلك كله نظرياته التي كانت ولا تزال محل تقدير علماء الاجتماع والتاريخ من الأوروبيين وإعجابهم

وعلى الجملة فهذه الأسس التي بنيت عليها النهضة الحديثة في أوروبا من تحرير العقل من قيود الأوهام، ومن عبادة العظماء أمثال أرسطو، ومن وضع القوانين بعد الملاحظة والتجربة، وبعد الشك فيما اتخذه الأقدمون قضايا مسلمة، كله كان منبثاً في الثقافة الإسلامية في عصورها الزاهية. وكل ما في الأمر أن الذين بنوا على هذه الأسس القيمة هم الأوروبيون لا المسلمون، وأن من سوء حظ المسلمين أن وضعت في سبيلهم عقبات ليس منشؤها دينهم حالت بينهم وبين أن يتموا ما بدءوا، وأن يشيدوا فوق ما أسسوا. ولكن من الحق أنا إذا أردنا أن نقوّم بناء لا نكون سطحيين فنقوم ظاهره، ولا نقوم باطنه؛ ونقوم أعلاه، ولا نقوم أساسه

ووجه آخر بجانب هذا، هو أن ثقافة المسلمين لم تكن جميعا متجهة اتجاه الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية؛ فقد كانت لهم مناح في الثقافة خاصة بهم لم يعتمدوا فيها على غيرهم إلا اعتماداً ضعيفاً غير مباشر؛ فما أنشئوا من علوم لغتهم كالنحو والصرف والبلاغة وأدبهم الذي رقوا به أدب جاهليتهم وساروا به على منهج خاص بهم، لا على المنهج اليوناني، ولا على المنهج الفارسي؛ والعلوم الغزيرة التي أنشئوها حول دينهم من تفسير للقرآن والحديث، ومن فقه قابلوا به قضاياهم ونظامهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وما أسسوا له من (أصول الفقه) الذي لم يجروا فيه على منوال سبق - كل هذه وأمثالها كانت مظهراً من مظاهر الاختراع العقلي للمسلمين، وكل هذه كانت عوامل في بناء المدنية الإسلامية التي بنيت عليها المدنية الحديثة

وقد حفظ لنا التاريخ بعض الصلات التي ربطت بين المدنية الإسلامية والمدنية الأوروبية، وأبان لنا كيف استمدت الثانية من الأولى، وكشف لنا عن بعض الجداول التي كانت تتسرّب من المدن الإسلامية تصب في المدن الأوربية، وإن كان بعضها لم يزل مطموراً إلى اليوم ولم يستكشف بعد

فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالاً وثيقاً، واتخذ علماؤهم فلاسفة المسلمين أساتذة يتعلمون منهم ويدرسون عليهم، ونشطت حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات

<<  <  ج:
ص:  >  >>