إن غايتا تدريب الأحياء على الموت وإعدادهم له؛ ذلك أن الإنسان يموت منه كل يوم شيء، وشجرته لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثر أخرى، حتى تصوح وتعطب، وانظر ما يفعل الزمن بآمالنا ورغائبنا ومساعينا وبأجسامنا ونفوسنا؟؟ والآمال يدركها الحين، والشباب يذهب، والصباحة يغيض ماؤها، والنشاط ينضب معينه، والشعر الأسود يبيض، والقوة تسترق، والقناة المعتدلة تتقوس، والسمع يثقل، والنظر يضعف، والشهوات تفتر، والعجز يدب دبيبه شيئاً فشيئاً. حتى يوافي الأجل فيكون كل هذا تمهيداً له تتدرب به النفوس على السكون إلى الموت. حتى كر الأيام إيذان مستمر بالموت الزاحف، وليس يسع الإنسان حين يتأمل ذلك إلا أن يشعر أن كل يوم يعيشه، هو يوم يموته، والواقع أن الإنسان في يومه غير ما كان في أمسه، لأن الحياة قائمة على التحول، أو هي دائرة على الموت إذا شئت، ولا سبيل فيها إلى بقاء شيء أو ركود حال، وكل ساعة تمضي علينا تمضي بشيء منا، أو على الأصح بصورة من صور وجودنا وحالة من حالات نفوسنا وأجسامنا، وكون المرء يتغير معناه أنه يذهب ويجيء غيره، ويموت ثم يخلق خلقاً آخر، ولكن سرعة التعاقب في الخلق تجعل الصورة الجديدة مولدة من القديمة الفانية وشبيهة بها شبها يخفي وجوه الاختلاط: والذي يديم النظر في المرآة لا يفطن إلى التغير الذي حدث، ولكن الذي يبعد عهده بالمرايا لا يسعه إلا أن يرى أن صورته قد تغيرت، وحالت عما كان يعرف
فالموت يعيث فينا نهارا وليلا. وصباحا ومساء، وكل إحساس أو رأي أو اعتقاد لنا يتغير، هو ضرب من الموت يدركنا، والشيخوخة والأمراض وما يصيبنا من خيبة في آمالنا أو إخفاق في مساعينا - رياضة لنا على ما نحن صائرون إليه من المآل. وقد أتساءل أحياناً عن معنى حياة مجهولة للموت ودائرة عليه ومتسربة فيه - في كل حيلة ومظهر؟؟ ولا جواب هناك أعرفه لسؤالي، وقد يئست من إمكان الاهتداء، حتى لم أعد أحفل لا الحياة ولا الموت، أو أبالي كيف أكون في يومي، وماذا يكون من أمري في غدي. وهل الإنسان إلا مقبرة متحركة؟؟ بل أنا أبالي - كما قدمت في مستهل هذه الكلمة - ولكني أغالط نفسي، وأصرفها عن النظر إلى هذا الجانب الأسود، وألهيها وأسليها بما أستطيع أن أرقيه على جوانب العيش من ضوء يردها مشرقة ضاحكة. ومن هنا نشداني للفكاهة وحرصي على