ويمضون هذا المضي، الغفلةُ عن حاضر الحياة غريبة مدهشة، والثقة في المستقبل قوية آسرة، ويظلُّ هذا دأبهم إلى أن يؤذَّن بركود الشباب، ووشك الانخراط في سلك الشيخوخة المتهدمة. عندها - وعندها فقط - يصحون، ولكن لات ساعة صحو.
وهنا ينقلب الوضع وينكفئ الاتجاه، فتحل الذكرى القريبة أو البعيدة محل العزم، والركود محل النشاط، والعجز محل القدرة، وهكذا بي ماضي الحياة وآتيها، يُسقط الناس كل رصيدهم فيها، ويجعلون منها - على حد تعبير الرياضيين - الكمية المهملة.
وليست هذه الصور التي رسمنا بالصور الخاصة أو الطارئة طروءاً زائلاً، إنما هي صور لها من طبيعة الشعور وخصائص الإحساس ما يجعلها من ألزم الصور للحياة وأكثرها لصوقاً بها وشيوعاً فيها. فالشيخ، أو من كان في حكمه من شبان السنين، يتَّجه إلى الماضي ليلطف عنده مرارة الحاضر، وليتعوض بذكراه عما يفيته العجز وضعف الُمنة من لذائذ راهنة يراها ولا يرى السبيل إليها كيف يكون. وقد تقول: لم يؤثر الشيخ أن يرتد بخياله إلى ماضي العمر ولا يرى أن يرسله في مطاوي المستقبل ليلتمس عنده الفرار وينشد السلوان؟ والجواب سهل هين إذا علمنا أن خيال الشيخ يخونه هنا، كما يخونه كذلك منطق الواقع ومنطق الاحتمال. فالشيخ يدرك أن سبيله من بقية العمر هي سبيل نازلة لا صاعدة، وأن كل يوم يمضي يدنيه من النهاية ويقلص لديه بقايا الأمل وأصداء السعادة؛ وإذاً فالحاضر فسحة مسدودة، والآتي سبيل مظلم مخيف؛ أما الماضي فهو السبيل الوحيد الذي يستطيع أن ينساب فيه الخيال دون أن يشله برد الواقع أو تروِّعه بشاعة الحاضر.
وقد تسأل: ألم يكن في ماضي الشيخ الألم كاللذة، والنعيم كالشقاء، والحرمان كالإنالة؟ فكيف يؤثر أن يعيش في ماضيه دون حاضره وآتيه؟ وهنا نرجع إلى حقائق الشعور الراهنة، فيستبين لنا أن الألم الفائت يفقد قيمته مع الزمن حتى لا يبقى منه إلا ذكراه وصداه. وهذه الذكرى - إذا لم يصحب أسباب الألم عند نشوئه حالات ملازمة - تضحى باعثاً على الاطمئنان والراحة. فأنت إذ تفقد كل ما تملك أو تصاب إصابة جائرة في سمعتك أو تجلس إلى حبيب إليك علَّقه المرض بين فكي الفناء والبقاء، بشعر بالغبطة وانفراج الشعور بزوال الخطر، حينما يعوض عليك السعي بديلاً من مالك، وحينما يردُّ إليك الوضع العادل سمعتك، وحينما يتخطى غول الفناء حبيبك فيرده سليماً معافى تنعم بلقائه نعمتك بكل عزيز