للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عليك. وعليه فتلك الأحداث التي كانت يوماً ناراً يقلب عليها الإحساس ويضرَّم الشعور أضحت بعد زوالها مجلبة للراحة والاطمئنان، فلا عجب إذاً من ارتداد الخيال إلى الماضي وعكوفه عليه.

بيد أننا لا ننكر أن ثمة عللاً أخرى غير ما أسلفنا لهذا العكوف من الشيخ على ماضيه وانصرافه إليه عن آتيه وحاضره: منها أن الشيخ إذ يرتدُّ إلى ماضيه يُسِّير الشعور في مسارب أضحت بتكرار الحدوث ممهدة لا تعترضه فيها عقبة ولا تتصدى له عثرة. ومن هنا فكرة (الماضي السعيد) عند الشيوخ، ومن هنا أيضاً ميلهم الميل الشديد إلى المحافظة وإبقاء القديم على قدمه وتجنب كل جديد يصدم الشعور ويدعو إلى تحويله من مجراه المعتاد.

ومن هذه العلل أيضاً ذهاب الرفقة وتخطُّف الموت أبناء الجيل الواحد، بحيث يجئ اليوم الذي يشعر فيه الشيخ أنه غريب في بيئة غريبة، فيزداد حنينه إلى ذلك الرهط الذاهب من جيله، فيستعيد بخياله ذكراهم المحبَّبة وأيامه وأيامهم الحافلة.

يضاف إلى هذا لون معهود من ألوان الدفاع عن النفس بتهوين الحرمان عليها وطلب العزاء لها عنه في الماضي؛ وهو نوع من أنواع تخدير الإحساس ينشأ أول الأمر في دائرة الوعي، ولكنه مع الزمن وتوالي الحدوث والتأثير يتسرب إلى دائرة العقل الباطن ويتخفى في تيه اللاشعور. وعندها يصدر ذمُّ الحاضر عن عقيدة وينطلق عن يقين. وهذه الظاهرة تبدو أجلى وأوضح في حياة الجماعات منها في حياة الأفراد. ومن هنا أن الأمم كلما أهمل حاضرها وأزداد تخلفها عن غيرها من الأمم ازدادت حفولاً بالماضي وتفطناً إليه وعكوفاً عليه. ولعل عبادة السلف عند بعض الشعوب ترجع في معظم الأمر إلى هذا الميل النفسي العميق.

ونعود إلى صورة الشعور كما يرسمها طماح الشباب ويحددها أمله، فنجد أن الشاب إذ يتجه في أمانيه وأخيلته وعمله إلى المستقبل، إنما يجري على طبيعة الشعور وبموجب قواعده. فالحاضر لدى الشاب الذي لم يحدد الضعف وقصر المجال وضيق المضطرب أمله فيه وحدود مسعاه، هو مرقاة منها يرقى إلى غيرها. وإذاً فحاضر الحياة من الشاب هو الدرب، والمستقبل الأفق، ما يفتأ متجدداً مغرياً بالسعي والسير ما بقيت في النفس حوافز السعي

<<  <  ج:
ص:  >  >>