والسير. ثم أن حاضر الحياة مزيج من الخير والشر واللذة والألم والنجاح والفشل. أما آتيها فهو كما يرسمه الخيال ويحدده الأمل، خير ونعيم ونجاح. أما الماضي فقد كان يكون من خياله ما يكون من خيال الشيخ لولا أن صورة المستقبل صورة قوية رائعة لا تدع للتفكير في الماضي إلا ما يدعه القوي للضعيف. وعلى كل فقد ترى من الشباب من ينزوي عن مستقبله ويتجه إلى ماضيه، إن يكن له ماض، فعل الشيوخ الذين غادرهم الأمل وأحالهم الكبر
هذا تحليل مجمل لصور الشعور في ثلاثة أطوار الحياة وفي أزمنتها الثلاثة، لا نعتقد أننا نتحكم فيه أو نفرضه فرضاً على القارئ، لاسيما إذا أزلنا من الصورة جانبي المبالغة والإغراق من تفاؤل رخيص يجعل الحياة ابتسامة طويلة كاذبة، وتشاؤم عبوس دائم التقطيب، كما يتمثلان في حياة نفر من الناس، شأنهم الحقيقي من الحياة شأن الهامش من الصحيفة، فيها وليسوا فيها.
مما وصفنا ترى جليّاً أن حاضر الحياة - وهو كل حقنا فيها - لا ينال من فطنة الشعور إلاّ قدراً ضئيلاً عابراً إذا قيس بما يملأ أخيلتنا ويكظها من صور الماضي والآتي.
وقد تقول: ماذا علينا - إذا كان هذا هو الحال - لنخلِّص الحياة من هذا العبث الذي يضيع فيه العمر بين لهفة على الماضي وغفلة عن الحاضر واستشراف للمستقبل؟ وجوابنا أن من طبيعة الحياة أن يتمازج فيها الخير والشر وتُساير اللذة الألم، وانه يستحيل أن تكون الحياة خيراً كلها أو شراًّ كلها، وانه لهذا أضحى واجباً أن يقبل عليها الناس إقبالاً لا يُفيتهم ما يتيسّر لهم من نعيمها، ولا يفيتهم - كذلك - النظر إلى المستقبل والسعي في سبيله؛ ولن ينقص نظر الناس إلى المستقبل من استمتاعهم بلذات الحاضر إذا عرفوا كيف يحسنون السير في سبيله سيراً معتدلاً حتى لا يضحى مشغلة لهم تزحم حاضر الحياة على نصيبها الذي يجب أن يكون لها من وعي الشعور، بل نحن نعتقد أن المرء يتيسّر له من سعادة الواقع، مع السعي السليم والتطلع إلى المستقبل الذي لا يقطعُ المرء من حياته الحاضرة، أكثر مما يتيسّر له حينما ينقطع عن ماضيه وآنيه ليكبّ على الحاضر وحده يرضع فيه اللذة ويترشف النعيم على الطريقة الخيَّاميَّة.
وهذه الحالة السليمة من الشعور لا تحلُّ حلولا مفاجئاً، كما يحلُّ الوحي، ولا تجئ بالسعي