الصفحات الأولى من روايته الجديدة (الحب الضائع) فقص لنا قصة الفتاة التي انتقلت من الاعتراف للقسيس إلى الاعتراف للدفتر وقال لنا بلسانها: (إني لأفكر في هذا فأذكر مواقف وقفتها في عهد الطفولة ولا أزال أقفها إلى الآن وقد كدت أبلغ العشرين من العمر. وهي مواقفي من القسيس. . .)
إلى أن تقول:(. . . فأخترع الخطايا اختراعاً وألقيها إلى القسيس متكلفة غالية في التكلف. فيقبل القسيس مني حيناً ويرفض حيناً آخر. حتى انتهى به الأمر ذات يوم إلى أن كلفني أن أعترف له بكل ما أثقلت به نفسي من هذه الأكاذيب والأباطيل ونبهني إلى أن الكذب عليه كذبٌ على الله، وإلى أن هذه الخطيئة الساذجة في ظاهر الأمر قد تستحيل إلى خطيئة مهلكة لأنها تعودني الكذب، وتغريني بالتكلف، وتدفعني إلى النفاق، وتنشئ بيني وبين الآثام صلات قد تنتهي بي إلى الشر. فأقلعت منذ ذلك اليوم عن انتحال الخطايا وتكلف الآثام للقسيس، ولكني ألاحظ الآن أني قد جلست إلى هذا الدفتر لأنتحل الأحاديث وأتكلف الأسرار وما في نفسي من حديث وما لضميري من سر. . .)
فها هنا طفلة أحبت الاعتراف لأنها أحبت أن تتشبه بالفتيات الناميات ولو في انتحال الخطايا واختلاف الذنوب، ثم حال القسيس بينها وبين الاعتراف الكاذب فرجعت إلى قسيس صامت لا يمنعها أن تعترف بما تشاء ولو لم تكن فيه مدعاة اعتراف، وهو الدفتر الذي تطويه عن الانتظار وتجد عنده مزيجاً من متعة البوح ومتعة الكتمان
هذا مزاج الاعتراف واتخاذ الدفاتر الخاصة معاً قد مثل لنا على صورته الجلية الصادقة في أطوار هذه الفتاة التي يحدثنا عنها مؤلف (الحب الضائع)
ولعلنا نلمس في هذه الحقيقة طابع الصدق الفني والصدق الواقعي الذي اتسمت به الرواية في سرد حوادثها ورصف نسائها ورجالها
تأخذ في قراءة هذه الرواية وتعبر منها صفحة بعد صفحة فلا يزال يرتفع في خلدك شعور بالسؤال: مني كنت هنا قبل الآن!
أو لا تزال تشعر كشعور الرجل الذي رأى وجهاً عرفه ولا يذكر أين رآه أول مرة، أو كشعور الرجل الذي رأى مكاناً تخيله ووصف له وظن أنه نزل به يوماً ولا يذكر متى كان ذلك اليوم