- قال: أن الخير المطلق ليس من طبيعة الدنيا، والعبرة بالغالب، فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون فيه خير قليل، وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلب، او الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.
وعاد إلى قصته، فقال:
وكنت سمعت على القاهرة إنها، لا تؤاخذوني، إنها كباريز، بلد لذة وانطلاق، وإنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغني والفقير، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق، يصنع كل فيها ما يريد، لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فانه حرام. وكف عن ذا فانه عيب، وإن. . . لأستحي والله أن أتكلم. . .
قلنا له: قل يا آخي، انك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح
فتردد قليلا، وغض بصره. ثم قال:
- وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني، أعني أن في مصر نساء كثيرات أ. . . الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا. بل صورة (البلاج) ومشاهده، والسفور والاختلاط، وان الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا، ولكن صوت الاثنين والأخبار والمسامرات، منها تكونت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً. . .
- أنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم. . .
- ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال، ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل، وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر، ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلا، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلدي، كانوا دلوني عليه من قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)، فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام، يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.
- ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية، وكنت قد