للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالماً من الذكريات، فيخفق لها قلبه، ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعاً، وتفيض على نفسه شعوراً طاغياً، بحب مبهم غامض، لا يجد طريقاً ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة، كما يزلزل البركان الأرض، إن لم يجد فوهة يندفع منها. . . ويدعه شخصاً متهافتاً، لا يقوم إلا على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية. . . ويسيطر عليه العقل أحياناً فيحتقر العاطفة، ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها مدامعه. . .

ويقبل على العمل بهمة عجيبة ورغبة قوية، فيطالع ويكتب، ويعمل كآلة دائبة الحركة، لا يأخذه ضعف ولا خور، ثم يشعر فجأة بكراهية العمل والنفور من المطالعة الجدية والعزوف عن الكتابة والتأليف ويستولي عليه كسل عقلي عجيب، لا يطيق معه عملاً من الأعمال. . .

عرفته في دمشق، وقد كان يعمل في مدرسة ابتدائية، نزلوا به إليها، فلا يكلفه العمل فيها جهداً ولا مشقة، ولا يشغل من تفكيره شيئاً، فكان يستمتع بوقته ونفسه كما يشاء، ويشتغل بالأدب للذة والمتعة الفنية. فيقرأ ما طابت له القراءة، ويكتب ما رغب في الكتابة، ويؤلف ما مال إلى التأليف. . . فكرة هذه الحياة وهوى الحياة العقلية المنظمة التي تضطره إلى نوع من الدرس بعينه، وتجبره على نوع من الكتابة بذاتها - وكان يعيش في أسرة رفرف عليها الحب، وسادها الإخلاص وأسبغ عليها ثوب السعادة، بين اخوة له ما رأى الراءون مثلهم في ذكائهم واستقامتهم وطاعتهم إياه، وحبهم له، وحرصهم على رضاه، وصحابة له ما فيهم إلا أريب طيب النفس، صادق الود صافي السريرة حسن السيرة، وكان له في بلده منزلة يحسده عليها من هو أكبر منه سناً وجاهاً، وأكثر علماً ومالاً، فمل هذه الحياة ومال إلى الهجرة وانتجاع أفق جديد. . . وأزمع السفر إلى بغداد، تاركاً عمله في وزارة معارف الشام، عاصياً الناصحين والناهين من الأهل والأصحاب. . . وجاء معنا إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رحله حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية، فلم تدع في رأسه إلا فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه، وماذا ضاع من عقله، فصحا من نوبته،

<<  <  ج:
ص:  >  >>