ونلقي عليه قبساً من نوازعنا نحن، وأهوائنا نحن؛ والإنسان يضفيُ من مشاعره على كل ما يحيط به، ينطق الصخور الصم الجلاميد بالشعر، ويرسل الحكمة على الألسنة الرياح المختلطة الأصداء والنغم. . . وإلا فكيف غاب عنا ما في هذا البحر من غدر وبطش وفتون؟. . .
واليوم لا مجلس لنا عند تلك الصخرة العاتية، ولا سمر ولا حديث! أين المظلة المنعزلة عن أخواتها لأن أصحابها زعموا لأنفسهم أنهم أكثر اتصالا في الطبيعة وأقوى شعوراً بالجمال؟ وأين جنيات البحر اللاتي لم يكن يراهن سوانا ونحن ينشرن أجنحتهن على صفحة الماء بالألوان السبعة التي تتفرق وتتداخل حتى يرد عنها البصر وهو حسير؟ أين بنات (ليليت) وهن يرقصن في نشوة وجنون على موسيقى الأمواج والرياح الزاعقة؟ أين. . . أين؟
ولست أدري ماذا فعلت أنت في هذا الصيف. أما أنا فقد أستعظت عن البحر بالنيل، ولم يكن مجلسي منه على صخرة ناتئة صلبة إسفنجية السطح كصخرة بئر مسعود، وإنما كان حيث ما يلذ لي أن أجلس على شاطئه السخي الحنون. وما من مرةٍ خلوت إليه إلا ذكرتك. ترى لو كنت معي في هذه اللحظات التي لا تقاس بالأعمار، أكنت تشاركني في الإعجاب به؟. . أنه أسمر الطلعة، ولكنه واضح الجبين، تلتقي فيه الحكمة والشعر. أنه لا يحس الجمال فحسب، ولكنه يخلقه خلقاً ويبدعه إبداعا؛ ثم هو لفرط شعوره بالقدرة يعبد خالق القدرة وينفق جانباً كبيراً من وقته في التسبيح والترتيل والصلاة!
في كل بقعة من واديه حياة، وفي كل ناحية من أنحائه حب، وفي كل ركن من أركانه معبد للجميل الذي يحب الجمال. . .
ولا عيب فيه إلا حلاوة في طبعه، ودماثة في خلقه، ورحابة في صدره، يراها الأغرار مظهراً من مظاهر ضعفه مع أنها سمة من سمات قوته، وشارة من شارات اعتزازه بنفسه صيانة لها عن إدعاء القوة في معترك لا شبيه له فيه ولا قريب. . .
النيل يبذل في غير تبذير، ويأخذ في غير اغتصاب دائم الصداقة، دائم الإحسان، معتدل في حالتيه بين البسط والقبض، لا تهاون فيه ولا غفلة ولا طيش. . .
النيل خلاق ولود فيه من الأبوة ميل إلى البناء والتعمير واختزان التجاريب على الأيام