للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفسي بأني لا محالة مائت فمنتقل إلى غير هذه الدار، وأني ملاق حسابيه، ولا يتداخلني الشك في ثواء الجنة!

ولعل مرجع هذا إلى العقيدة، وإلى الأوالي من التلقينات الدينية، ورد كل منزع في نفس الإنسان إلى أصله ليس في العلم بكثير

وأيفعت وطر شاربي، وعراني ما يعرو الشباب عادة من اجتراء العقل ومحاولته بسط نفوذه على سائر مشاعر الإنسان ما تعلق منها بالحس، وما تعلق بالروح والمعنى، فأقلعت عن زيارة المقابر في يوم العيد، وعدلت بهذا الدافع عن جهته، وصرفته إلى ما حسبت إنه خير من مشاهدة قبور الموتى المكتئبة الباهتة، ولم تكن في ديدني لتعدو صورة من صور الحياة تغاير ما يقع عليه الحس من ألوان الصور. غير أن الكآبة رانت على قلبي فرأيتني أنزع إلى الاعتكاف في الدار طوال أيام العيد، وكأنما كنت أستحس في ذلك معنى العيد!

وطال عهد الهجر بيني وبين مدينة الأموات وأهلها الثاوين

ثم اكتاد لي الدهر مصطنعاً مع القدر مؤامرته، فأوقع بي الضربة على غرة مني، وتسلل الموت إلى أبي في موهن الليل إذ الناس رقود كأنه خشي أن يختلسه مني على أعين من الناس!

عرفت إذ ذاك معنى الموت، وفهمت إنه لحياة بداية، ولحياة نهاية، وأدركت إنه لابد مخترمي على وجه الأيام، وإن وصلت بالعمر أحقاب وأجيال وأعوام، وما اخضل عود إلا ليختضر، وما طال عمر إلا ليقتصر!

كذلك قضى الله بقضائه الحق، وخرجت يوم العيد أسعى أول ما أسعى إلى جدث والدي أترحم عليه وأقرؤه السلام، وإذ أقف منه على مقربة إذا بالدمع ينبجس ويطفر، وإذا بالصدر يشهق ويزفر، وهذه الأحشاء تغلي وتفور، وهذه الأرض ترتج بين يدي وتمور، والفؤاد مني يتواثب ويصطرع، والكبد تكاد تنشعب وتنصدع. ويا له من يوم عصيب!

ما أقسى العيد على القلب الوجيع!

يا لله لقد تغير المعنى الذي كنت أحس يوم كنت أرى المقابر إلى معنى آخر لا يتعلق به الوصف حين شهدت مقبرة أبي! وفقهت مغزى غير ما عرفت من حكمة زيارة القبور، إنها تعني رسالة الموت إلى الحياة، أو خطبة الأموات في الأحياء واستمداد معنى الحياة من

<<  <  ج:
ص:  >  >>