والأزقة (سنة ٣٩١هـ)، وكانت القاهرة تبدو في هذه الفترة بالليل، كأنها شعلة مضيئة؛ وتجري جميع المعاملات بالليل، وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف، فتسطع الميادين والمنتديات بالوقود والزينات، وتغص بصنوف اللهو والمرح. فلما خرج الناس في ذلك عن الحد، وبالغوا في اللهو والإسراف والزينة، منع الحاكم النساء من الخروج ليلاً لكي تخف عوامل الفتنة والغواية، ثم أمر بمنع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي، وعاد الظلام يخيم على القاهرة بالليل؛ وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب أطواره ونزعاته، حتى لقد لبث مدى حين يؤثر الجلوس في الظلام بيد أنه ينم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه
ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى عمد الحاكم إلى إصدار طائفة من الأوامر والقوانين المدهشة التي لم يسمع بمثلها من قبل في أي مجتمع إسلامي، وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية، وكان مما يزيد في غرابتها وغموض بواعثها إنها كانت تصدر ثم تمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها، ثم يعاد صدورها وهكذا. وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور هذه المراسيم حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى الأحكام، واكتفوا في تعليلها بنظرية بسيطة، هي أن الحاكم كان ذهناً مضطرباً لا يصدر عن روية أو حكمة، ولم تكن هذه الأوامر والإجراءات الشاذة سوى نزعات مخبول لا يستقيم له منطق أو غاية. ويحسن قبل أن نناقش هذا الرأي أن نستعرض المراسيم أولاً، وان نحاول أن نتفهمها، وان نستقصي بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع يومئذ
ونبدأ بالمراسيم الاجتماعية. في سنة ٣٩٥هـ، صدرت أول طائفة من هذه القوانين المدهشة، فمنع الناس من أكل الملوخية والترمس والجرجير والتوكلية والدلينس، وحرم ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام الأضحية، وحرم بيع الفقاع وعمله البتة وحرم صيد السمك الذي لا قشر له وكذلك بيعه؛ وحرم دخول الحمام بلا مئزر؛ وحرم على النساء أن يكشفن وجوههن في الطريق، أو خلف الجنائز، وحرم عليهن التزين والتبرج؛ وشدد الحاكم في تنفيذ هذه الأوامر، وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير والإعدام. ثم حرم على الناس أن يخرجوا من منازلهم إلى الطرقات بعد الغروب، وان يزاولوا البيع والشراء بالليل، فخلت الطرق من المارة، وأقفرت الشوارع والميادين بالليل، وغدت القاهرة كالمدينة