للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بصاحبه، حتى يتقدم إماماً في كل مجلس يغشاه، وطالما وقعت بين الشاعرين جفوات متقطعة لما يلوكه حافظ من حديث إمام، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع، لما بينهما من صلات جمع بينهما الشعر والبؤس والفكاهة وأكدها صفاء النفس، ونقاء الضمير، وقد اشتهر إمام بالشاعرية قبل صديقه، فكان حافظ في صباه يعرض عليه ما يفيض به خاطره من بيان، فيقوم إمام بصقله وتجويده وتزكيته، ثم مضت الأيام فإذا شاعر النيل يطير بشعره في آفاق الشرق العربي، وإمام البؤساء لا يجد من يروى قصائده غير حفنة يسيرة لا يمكن أن تلحق برواة حافظ،! وينظر العبد إلى مكانه من صاحبه، فيوسع عشاق حافظ لوماً وتسفها، كما يعلن أستاذيته له في كل ندوة يدور بها الحديث عن الشعر والشعراء، وحافظ يرد عليه بنكاته العابثة، وفكاهته الساخرة! فينتصر عليه أي انتصار!!

نظم إمام في الخمر أبياتاً رائعة صادفت هوى في الأسماع والقلوب، وأذاعتها الصحف مقرظة مادحة، وانتظر الشاعر من حافظ أن يوفيها قسطها من الإطراء والإعجاب، ولكن شاعر النيل يصيح في ندوة حافلة بالسمار والأدباء (إن مثل إمام في الشعر كمثل (بخيتة) في المطبخ، إذا هي أفلحت في تعمير (اللمبة) شاع عنها بين أهل الحي كله أنها سيدة الإماء، وكذلك يتلقى الناس أبيات إمام فيهللون له لأنه عمر (اللمبة) بنجاح)!!

والواقع أن حافظاً كان مريضاً بمعابثة إمام، فهو لا يرحمه بالسكوت عنه مهما بالغ في التودد إليه، وكان لا يقصر تندره على قصائده وأبياته، وهي أثمن ثروة يعتز بها الشاعر أي اعتزاز، بل ينتقل إلى ملبسه ومأكله وهيئته، فيوسعه سخرية وعبثا،!

لقيه ذات مرة يلبس (كرافته سوداء فصاح به: (أقف قميصك أيها العبد، فصدرك الأسود يضجر الناس!) ووجده مرة يكتب خطاباً، والمداد يتساقط من قلمه فقال (جفف عرقك يا إمام)!! وأمثال هذه المأثورات الحافظية متداولة مشهورة، وكان في طوق إمام أن يؤدب صاحبه ببأسه وصرامته، ولكنه كان في أكثر أحواله ينفق من جيبه، ويقاسمه قروشه ومليماته مما يدعو إلى التسامح والإغضاء!

ولم يكن حافظ وحده يستغل سواد إمام في تندره وسخريته، بل إن إماما نفسه قد اتخذ منه مادة دسمة للحديث عن نفسه، فهو لا يفتأ يردده في قصائده وأزجاله ويستلهمه كثيرا من المعاني الجياد، فإذا تحدث الشاعر عن بؤسه وفاقته دار حول سواده ودمامته، وإذا لفحه

<<  <  ج:
ص:  >  >>