للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في يده مما كان يؤمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد والغرم الثقيل ظن أن في سائر السمكة ما يشبعه ويشفي من قرمه، فبذلك كان عزاؤه وذلك هو الذي كان يمسك بأرماقه وحشاشات نفسه؛ فلما رأى السدري يضرب القرى ويلتهم التهاماً قال: يا أبا عثمان السدري يعجبه كل شيء، فتولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه، فمازال يقيء ويسلح ثم ركنه الحمى وصحت توبته وتم عزمه في ألا يؤاكل رغيباً أبداً ولا زهيدا، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها

فالجاحظ في هذه النادرة البارعة يحاول أن يدخل على نفسك من كل جهة، وأن يهز قلبك بالضحك في تهويله وإغراقه، فهو يبسط لك في العبارة، ويرادف الجمل على المعنى الواحد فإذا به يبهرك بصور معروضة لا بألفاظ مسرودة وخذ بالنظر إلى هذه النادرة التي بين أيدينا، فأنت في ضحك بالغ من إغراق الجاحظ في تصوير بخل ابن أبي المؤمل حتى أنه رأى السدري (رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف! ورأى الحتم المقضي! ورأى قاصمة الظهر! وأيقن بالشر! وعلم أنه قد ابتلي بالتنين!! وأنت أيضاً في ضحك بالغ من نهاية هذا الرجل تلك النهاية الأليمة: إذ (تولد الغيظ في جوفه، وأقلته الرعدة فخبثت نفسه فمازال يقيء ويسلح!! ثم ركبته الحمى!! وصحت نوبته وتم عزمه في أن لا يؤاكل رغيباً ولا زهيداً، ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه لا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها!!)، ثم أنت في ضحك من صنيع السدري وهو يقور السرة، ويقبض على الفقا، ويجترف المتن، ويكتسح ما على الوجهين جميعاً، ثم وهو يفري القرى ويلتهم التهاماً!! ولقد كان السدري من الأكلة، وهو من الأشخاص الذين أولع الجاحظ بالتنادر عليهم، وأغرق في الضحك منهم، ومع ذلك فكان يجالسه ويحادثه ويجاذبه الرأي والفكاهة، فقال له يوماً: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة! فقال السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتتمتع باللباس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت! فقال السدري: فكيف عقل العجوز؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلاً!!

على أن السدري وهو على ما رأيت من الشره والجشع لم يكن في الأكلة بسباق الحلبة ولا هو بكبش الكتيبة في رأي الجاحظ وتقديره، وإنما كان يقدم في ذلك قاسماً التمار، وكان

<<  <  ج:
ص:  >  >>