كلام الكاهن ولا تتذوق حديثه إلا بعد مقدمتي الطويلة فأصبر على ما لم تحط به خبرا. . . إن هذا المكان لم يكن الوصول إليه في الزمن السالف يسيرا كما هو الآن: فهذه الجبال التي يزحف عليها قطار السكة الحديدية جاهدا كالأسير يرسف في الأغلال، ولا يصل إلى عليائها إلا بأمراس من حديد وأسنان كأسنان المشط ترفده كلما ارتفع، وتصده كلما ارتد أو هم أن يقع، هذه الجبال لم يكن من السهل أن يرقى إليها الإنسان، ولا أن يخترق جوفها كما يفعل الآن، ولا أن تطأ هاماتها الأقدام، ولا أن تفسد جمالها هذه المدينة القائمة على الحديد والنار، ولا أن يعكر صمتها ويغض من جلالها صخب الناس في الليل والنهار. ولذلك اتخذها الرهبان مثابة، ولجأوا إليها يتعبدون، وما أحسب الجبال قد برمت بهم وقد وجدت بينها وبينهم صلة وشيجة من الصمت والوقار والرهبة والتنزه عن هوان المدنية، إذا علمت هذا فأعلم أن الجبال والرهبان قد أنس بعضهم ببعض وقطعت الطبيعة ما بينهم وبين سائر الخلق من أسباب، واتخذ بعضهم اجيالافرا التي نحن فيها مثابة ومتعبدا، أقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة التي سمعت فيها حديث الكاهن، واتخذ بعضهم ميفاسبليون التي مررنا بها مثابة ومتعبدا آخرين وأقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة؛ وسكن الرهبان إلى الجبل، وسكن الجبل إلى الرهبان
ولكن ظلم الإنسان للإنسان لا تنقطع أسبابه، ولا تنسد أبوابه، ففي عام ١٨٢١ الذي بدأ الكاهن منه حديثه كان أهل اليونان قد أضناهم الضيق، وأعيتهم الحيل، وأمضهم الظلم، مما يلقون من عسف الترك وحكمهم الجائر. ففي غسق الليل مشى رؤساء القبائل وكبار الرهبان بعضهم إلى بعض يهمسون بالثورة والتمرد، وما كانوا ليستطيعوا إعلان الثورة أو الاصحار بالتمرد، بل ما كانوا ليستطيعوا أن يعلنوا ما دون الثورة والتمرد مما يسمى شكوى أو رجاء أو استرحاما أو ما دون ذلك من ألفاظ الذلة والهوان. ولقيت الدعوة الخافتة من النفوس استعدادا. واجتمعوا تحت ستار العبادة في هذا المكان ليدبروا أمرا: قال الأحبار: (نحن قادة الثورة وحاملو لوائها باسم الأمة واسم الدين.) وقالت العشائر: (آمين!) وقال كل حبر من الأحبار: (أنا قائد القواد ولوائي هذا هو اللواء الأعظم بمالي من المكانة بين الحاضرين)، فدبت بينهم الشحناء وانقسموا شيعا بعضهم لبعض عدو
ثم خرج إليهم كاهن هذا الدير وفي يده لواء واحد وقال: (لا لواء إلا هذا اللواء الأعظم: