للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في منطرته فكان يسمع لوقعها تحت المطر صوتاً حزيناً مؤلماً، فشعر سعد بالأسى يملأ قلبه. . . سيضطر غداً إلى فراق هذه المنطرة الحبيبة، وهذا الكرم الذي ثابر على حراسته عشر سنين وتعلقت حياته به، وانتثر قلبه في أرجائه، فأصبح جزءاً من حياته وقطعة من نفسه، لا غنى له عنه، ولا حياة له بدونه. . . لقد ملأوا أمس آخر صندوق (سحارة) من العنب جمعوه من بقايا العناقيد ولم يبق في الكرم ما يحرسه، فشعر كأنه يفارق ولداً عزيزاً عليه، قد رباه وتعهده بالعناية ثم فقده. . . أو لم يرافق الكرم وهو لا يزال حصرما؟ أو لم يتعهده حتى نضج وأينع؟ أو لم يشاهد التجار كل مساء وهم يأتون ومعهم العمال بالعشرات يملأون صناديق (سحاحير) العنب، وهم يغنون ويصيحون ويترعون الفضاء أنساً؟ كم بين هذا المشهد وبين مشهدهم أمس وهم يملأون آخر (سحارة) صامتين تلوح على وجوههم إمارات الحزن والكآبة؟ لم يستطع سعد أن يراهم على هذه الحال فانسل إلى منطرته ووضع رأسه بين يديه يفكر حزيناً ملتاعاً. . .

جلس سعد يتأمل هذا المشهد ذاهلاً غائباً عن نفسه والمطر يشتد ويقوى، والماء ينفذ من سقف المنطرة، وكان سقفها من ورق الكرم الجاف، ويبلل رأسه وثيابه لا يحس به ولا يحفله لأنه ابن البر وصديق الطبيعة، ولأنه كان ذاهلاً عن نفسه لم يصح حتى أسدل الليل ثوبه الأسود على الدنيا فغيب تحته هذه المشاهد كلها. . . صحا سعد فنفض الماء عن شعره وثيابه، ونشر خيمته فوق رأسه لتمنع عنه المطر، وأوقد مصباحه الألماني الذي يظهر للسائرين في هذا المرقب العالي كأنه نجم من نجوم السماء. . . وجلس يفكر. . .

ذهب به الفكر إلى بعيد. فذكر حين جاء هذه المنطرة مع عمه وابنة عمه ليلى، وكان ذلك قبل أحد عشر عاماً. لقد كان في السادسة عشرة، وكانت هي في التاسعة من عمرها، وكان عمه ناطور الكرم يحرسه منذ ثلاثين سنة، وهو الذي بنى هذه المنطرة وأعاد بناءها أكثر من عشرين مرّة إذ كانت تهدمها الرياح والأمطار والسيول. لقد تصوّر عمه بقامته العالية وجسمه المتين وظهره الذي انحنى قليلا تحت أعباء الزمان، ولحيته البيضاء. . . لقد كان عمه قوياً شجاعاً وكان سعد يعجب به كثيراً كما كان يحب ابنته ليلى. . . أحبها منذ كانت طفلة ولكنه لم يكن يعرف أنه يحبها، ولم تكن كلمة الحب دائرة على ألسنة القرويين، بل كان من العار على الشاب أن يذكرها لفتاة. . . لم يكن يعرف أنه يحبها ولكنه لم يكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>