كان اللقاء الأول بيني وبينه في صحبة الأستاذ صاحب الرسالة، كان هو الذي جمع بيننا فالتقينا. . . كأكرم ما يلتقي الصديق بالصديق. وتكرر بعد ذلك لقاؤنا وعلى مر الأيام. . . ربط الحسب بين قلبينا بأقوى رباط. وفارق علي طه الدنيا وهو قطعة من نفسي. . . نفسي التي وهبتها قطعا لأصحاب الوفاء!
أشهد لقد كان علي طه مثالا فريدا في صداقته وإنسانيته. وأشهد ما رأيت إنساناً يفتح قلبه لأحبابه من أول لقاء كما رأيت هذا الإنسان. . . لقد كان علي طه يقف أبدا وراء قلبه، أشبه بالرجل الكريم الذي يقف وراء بابه في انتظار الطارقين! وما كان أعذب حديثه إذا تحدث. ما كان أروعه وأمتعه! لا أذكر مرة أنني جلست إليهدون أن يلذ لي الصمت الطويل ليفرغ هو للحديث الطويل. . . أنني أحب دائما أن أستمع إلىصوت فنان، ينطلق من بين شفتين تنتسبان إلىإنسان! مرة واحدة هي التي ضقت فيها بحديثه، وأوشكت أن أضع يدي على شفتيه. كان ذلك ونحن نزوره في مرضه الأخير الذي لقي فيه ربه. . . لقد كان الصمت المفروض عليه هو الطريق الوحيد إلىالحياة، ومع ذلك فقد آثر أن يضحي بحياته ليتحدث إلىأحبابه. . . هو الذي كان يعلم أن كل كلمة ينطق بها لسانه تحمل الفناء لكل نبضة من نبضات قلبه! يا رحمة الله له، لقد كان في ذلك اليوم أشبه بزهرة ذابلة. . . هو الذي كم أفاض علينا من عطره وشذاه!
ما سمعت علي طه مرة يذكر أنسانا بسوء، أو يتناول شاعرا بذم. وكان إذا تحدث عن نفسه فهو الحديث الطليّ الذي يخرج من أعماقه وهو قريب من فكرك وحبيب إلىقلبك، فلا زهو ولا صلف ولا غرور ولا ادعاء. . . ما أثقل الحديث تسمعه من بعض الناس إذا دار حول النفس أو طاف حول معالم الذات! ما أثقله من كل متحدث عن نفسه، وما أخف وقعه على الشعور وأبعد نفاذه إلىالعقول إذا كان المتحدث علي طه. . . كان إذا تحدث عن نفسه فليرسم صورته الإنسانية كما فطره الله عليها. وكان إذا تحدث عن شعره فليحدد طاقته الفنية كما تعارف عليها الناس. . . إيمان عميق بالنفس وإحساس صادق بالقيم. ورحم الله أولئك المؤمنين بأنفسهم، يضعونها الموضع للائق الكريم، دون جور على الحق إذا كان لهم في رحابه نصيب أي نصيب!
رحم الله علي طه، لقد كان واحدا من أولئك. . . . كان يعرف لنفسه قدرها ويعرف لشعره