مكانه. . . لم يهبط به أو بها إلىذلك الدرك السحيق الذي يهبط إليهغيره من الشعراء؛ أولئك الذين يضحون بكرامتهم العقلية في سبيل المتعة الزائلة والشهرة الزائفة. . . ويدفعون بها إلىالحضيض لقاء كل زهيد من الأجر وكل تافه من الجزاء! كان شعلة متوقدة من الإحساس بالجمال؛ الجمال في شتى صوره وألوانه ومعانيه: جمال الصداقة، وجمال الكرامة، وجمال الحياة. . . أخلص للجمال الأول فأغترف الأحباب من نبع وفائه، وآمن بالجمال الثاني فقبس الكرام من وهج إبائه. . . وهام بالجمال الأخير فقصر الشعراء عن بلوغ مداه!
كان علي طه أشبه بالبلبل في حياته. . . إذا حلق فلا يحلق إلا في أفق يهيئ له وسائل التغريد، وإذا وقع فلا يقع إلا على غصن يشد له أوتار الغناء! وكان إذا طوّف تخير البقعة التي تثير خيال الشاعر، وإذا شد الرحال فإلى الأرض التي تفجر عواطف الفنان. لقد قضى حياته يفتش عن مواطن الإثارة في كل مشهد من مشاهد الكون وكل مجلي من مجالي الطبيعة، فإذا جلس يوما إلىمائدة الحياة. . . عب من رحيقها المصفى وصب من عصارة الروح في أشهى الدنان. . . .
وكان صاحب ذوق نادر، ذوق كنت أرقبه فيملأ جوانب نفسي تقديرا له وإعجابا به. . . كنت أرقبه إذا ما تحدث عن لوحة فنية راعته، عن قطعة موسيقية هزته، عن أثر أدبي ترك ظلاله في نفسه، عن منظر طبيعي فجر الشعر في أعماقه. . . . عن أي شيء وقعت عليه عينه والتقطه حسه وعاش في طوايا الوجدان! كان مسكنه آية على ذوقه. . . إذا دخلت حكمت على صاحبه من أول نظرة بأنه فنان. . . أنظر إلىهذه اللوحة الرائعة التي تغطي جداراً بأكمله، وإلى تلك التي تغطي الجدار الذي يواجهه. وإلى اللوحات الأخرى الصغيرة التي انتثرت هنا وهناك. . . وتأمل هذا التمثال، وأدر هذه الأسطوانة، وطف ما شئت بأجواء الشرق والغرب، وهيئ شعورك لوقع الفجيعة وأطرق لحظة من زمان. . . إن البلبل الذي كان يصدح هنا قد طوت الريح جناحيه، وهوى من سماء الفن إلىأرض السكون والعدم. . . . ولا رجعة له بعد ذلك ولا إياب!
أذكر أننا تواعدنا على اللقاء ذات مساء في (الأهرام)، ثم خرجنا معا نقصد إلىضفاف النيل والليل ساج والكون غارق في ضياء القمر. . . وراح علي طه يتحدث عن الحياة، وينشد