من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات. . . وحين يفرغ من هذا كله يمد عينيه إلىالضفة المقابلة ثم يهتف بصوته الحالم: أنظر إلىهذا البيت الجميل الذي ينام في أحضان الزهر. وإلى ذلك البيت الأنيق الذي يستحم في مياه النهر. . . هذه يا صديقي هي الأبيات. . . الأبيات التي أقامها السعداء على دعائم الواقع. أما أبياتنا نحن الشعراء فقد أقمناها على دعائم الخيال!
وأجيبه في صوت يمتزج فيه الإنكار بالعزاء: بالله حسبك. إنها أبيات من حجارة وطين، سيعيش أصحابها نكرات ويموتون كذلك. . . وستمتد إليه ايوما يد البلى فلا يبقي منها حجر ولا أثر أما أبياتك وأبيات الموهوبين من أمثالك فهي من نفس وروح. . . لن تبلى لأنها ستعيش في الضمائر والقلوب، وسيعيش أصحابها ما نطق لسان وما كتب قلم. . . إنك يا صديقي تعكس القضية، إن أصحاب الفن هم أصحاب الواقع. . . لأنهم أصحاب الخلود!
ويعترض علي طه في لطف ثم يقول: أصحاب الفن هم أصحاب الخلود؟ هذا حق جميل، ولكن الحق المر أنهم ليسوا كذلك هنا. . . في هذا الشرق يا صديقي! الشرق الذي قال عنه الزيات كلمة ستظل إلىالأبد شعاراً له. . . ترى أتذكر قوله:(. . . إن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش؛ ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعا من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!!).
وأقول ردا على اعتراضه: إن هذه الكلمة قد تعبر عن الشرق في هذا الجيل، ولكنها لن تعبر عنه إلىالأبد كما تظن. . . إن أبناء هذا الجيل لن يؤرخوا الأدب وحدهم وكذلك لم يؤرخه أبناء الأجيال الماضية. . . إن هناك أجيالا آتية ستكون أوسع أفقا وأكثر ذوقا وأوفر فهما وأعمق ثقافة، فليطمئن كل صاحب حق إلىأنه سيظفر بحقه. . . إن لم يكن اليوم فغدا، وإن لم يكن في الغد القريب ففي الغد البعيد على كل حال. . . يا أخي ما أكثر طمعك! ألا يكفيك أنك ملء السمع والبصر في كل مكان؟!
ويتوقف علي طه عن المسير ثم يقول: كلمات يسمعها الشاعر من الناقد ما دام على قيد الحياة. . . فإذا مات. . . . قبض الناقد قلمه عن تقويم شعره واكتفى بكلمة رثاء!