وتتأذى بالخشن، والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن للمألوف، ويصغي إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ. ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والروية الفاسدة)
الحق الصريح أن الذين يدعوننا أن نكتب كما نتكلم إنما يزورون حقيقة الفن فيهم بنقيصة العجز منهم، بدليل أنهم يجدون في أنفسهم حلاوة الرضا إن وقعت في كلامهم عفوا كلمة أنيقة أو جملة رشيقة أو سجعة محكمة. ذلك لأن الإنسان يتميز من سائر الحيوان بأن أحاسيسه التي تصل إليه عن طريق المشاعر، وعواطفه التي تنشأ فيه من فعل الغرائز، إنما تتوالد في ذهنه وتتكاثر في خياله حتى تزيد على ما تقتضيه طبيعة وجوده أضعافاً مضاعفة. هذا القدر الموفور المذخور من العواطف والأحاسيس لم يزل يطلب متنفساً ينبثق منه ومفيضاً ينسرب فيه حتى وجد الفنون الجميلة الأربعة فاستفاض مخزونه واستعلن مكنونه بتسجيع القلم وترجيع القيثار وتلوين الريشة وتمثيل المنحت. فالإنسان كما قال طاغور فنان في الكثير الغالب من أمور دنياه؛ فهو يجمِّل الهيئة ويحسِّن الشارة وينمق العبارة ويهندس الدار ويرّقش الغرف ويزخرف الأثاث وينمنم الحديقة إعلاناً لشعوره وإبرازاً لشخصه وإثباتاً لوجوده
وهو يشيد المعابد الفخمة، وينصب فيها التماثيل الرائعة، ويرسم عليها الصور البارعة، تعبيراً عن مكنون عواطفه لربه ودينه
وهو كذلك يخطط المدائن الجميلة، ويعبّد الشوارع الظليلة، وينسق الحدائق العامة، تنفيساً عن مكظوم عواطفه لأمته ووطنه
من ذلك نعلم أن جمال العبارة وجلال الأسلوب من الصفات المشتركة في جميع الناس، تتفق في الوجود والمظهر، وتختلف في الطاقة والدرجة. فالعامة يستعملون الوزن والسجع والجناس متى جاشت في صدورهم عاطفة أو جرت على ألسنهم حكمة، فمواويلهم وأناشيدهم وأغانيهم موزونة أو موقعة، وأمثالهم وحكمهم وضوابطهم مزدوجة أو مسجعة. وكلما سمت الطبقة واتسعت الثقافة وصدق الشعور وصفا الذوق وأرهفت الأذن سما الأسلوب من الجميل إلى الأجمل، ومن الجليل إلى الأجل، حتى يبلغ الأوج عند كلام الله. إن جمال اللفظ وطلاوة التعبير تابعان لقوة العاطفة وجلالة الموضوع، لا فرق في ذلك بين