ولا ريب أن مهابة رجال الدين تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لمكانة الدين في المجتمع، وإن مكانة الدين في المجتمع تعلو وتهبط تبعاً لنشاط القوامين عليه، الداعين إليه، فلا عجب إذا أتى على علماء الأزهر حين من الدهر كانوا فيه (ملوكاً لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم) في عصر كان فيه صوت الدين مسموعاً، وحكمه نافذاً، وأنصاره كثيرين. ولا غرو إذا نزعت الحياة مهابتهم هذه في عصر خفت فيه صوت الدين. وعطلت أحكامه، وقل دعاته. ولا بدع إذا سارع الأزهر - بدافع من حب البقاء، وحافز من صيانة الحياة - إلى مسايرة العصر الحديث الذي يعيش فيه فانتقل من حلقات الجامع إلى فصول الجامعة، ومن حصير الرواق إلى مقاعد الدراسة، ومن سراج الزيت إلى نور الكهرباء، محاولاً أن يتبوأ مركزاً في الحياة. . .
في مراحل هذا الانتقال أصبح عسيراً على الأزهر تعيين وجهته، ورسم خطته: فقد تعددت أمامه السبل، وتفرعت تحت بصره المسالك، وتشعبت بين يديه الدروب، ولبث في حيرة تنازعه فيها القديم والحديث، فقيض الله رجالاً أشربوا في قلوبهم الإصلاح بإيمانهم، فخافوا على الأزهر أن يسحقه الجديد إذا بقي على القديم، ولم يأمنوا أن يقطع صلته بماضيه إذا سارع إلى الجديد، فتحفظوا وكانوا أمة وسطاً، وأعلنوا للملأ شعارهم الخالد:(نحن لا نهجر القديم لأنه قديم، ولا نعشق الجديد لأنه جديد)!
وكانوا حكماء بهذا التحفظ، كما كانوا حكماء حين لم ينتظروا أن يتم الإصلاح في حياتهم، فبدءوا سلسلة الجهاد ثم تركوها في أيدي أنصارهم وأعوانهم الذين حرسوا في بيئة الأزهر وفي البيئات الموالية له شريعة تهاون بها المجتمع ولم يرعها حق الرعاية.
ومع أن التحفظ خطة حكيمة فقد نجم عنه كبت للشعور، وفي الكبت حرمان اللذائذ، وفي الحرمان إثارة إلى مستعذب الرغائب، وفي الإثارة تحد وإغراء، فكان طبيعياً أن يضيق الأزهري بقيوده في عصر الحرية والانطلاق، فينسى معاني الرضا القناعة المتمثلة في حصير الرواق وسراج الزيت وصومعة النسك، ويمسي حالماً بالوظائف والعلاوات، والمناصب والدرجات.
لكن هذا كله لم يذهب بحسنات التحفظ في نظر المنصفين الذين يعلمون أن الإصلاح التدريجي البطيء خير وأحسن من الانتقال الفجائي السريع، لأن في البطىء اتزاناً ونظاماً،