اجتمعت لمحمد محمود باشا أرستقراطية النسب والمال والعلم والمنصب. فلو أنه كان يندلق على الناس بالبطر والزهو في الشوارع والمجامع لما كان ذلك بِدْعاً من الأمر، ولكنه - برّد الله بالرحمة ثراه - ظل طول حياته يطالع الجمهور ويعالج الأمور ومن دونه حجاب من التصون الكريم لا يسمح له أن يتخذ الشعب إطاراً لصورته، ولا مظهراً لعظمته.
لم يقل أحد من الناس في وقت من الأوقات:
هذا محمد محمود يعرض سلطان منصبه على عيون الفقراء، أو يفرض إعلان موكبه على حناجر الدهماء، أو يرفد ثروته الضخمة بعضوية ظنينة في شركة من الشركات أو في بنك من البنوك!
ولم يقل أحد من الناس في مناسبة من المناسبات:
هذه زوج محمد محمود تتمرد على تقاليد الشرق وآداب الإسلام، فتشهد مع الرجال حفلات النهار وسهرات الليل!
ولم يقل أحد من الناس في حالة من الحالات:
هذا ابن محمد محمود ينبو على القانون في الدواوين، أو يعربد على الناس في عماد الدين، أو يتنبل باللباس والمركب في طريقه إلى نادي القمار أو إلى سباق الخيل!
إن بيت آل محمود وبيت آل عبد الرزاق هما المثلان الصحيحان في مصر للأسرة المسلمة الحديثة. ذلك لما تهيأ لهما من وسائل السؤدد وشمائل الفتوة؛ وجماع هذه الوسائل وتلك الشمائل قيامهما على أركان من المجد والمال والعلم والشخصية القوية قلما تجتمع كلها لبيت واحد. والسر كله في الشخصية الأصيلة التي خلقت من التليد والطريف والشرقي والغربي مدنية مستقلة كانت أبلغ حجج الإسلام والشرق على من يقولون بلسان الجهالة والوضاعة إن الإسلام ينافي التمدن، وإن الشرق يجافي الحضارة.
ومن هنا كانت حياة الفقيد العظيم بخصائصها المميزة من العزة والعفة والإباء والصدق، رسالة خلقية تقوم على الدعوة والقدوة في فترة من المصلحين الصالحين تفككت فيها الأواصر وتحللت العقد وانماعت النفوس، وأصبح كل عمل يجوز، وكل شيء يمكن، وكل وضع يستقر!