هذه مسألة ظاهرة مشاهدة؛ وتعليلها بين واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فأعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في الإنسان من تقدير الحقيقة. . . وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعني بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعني بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً.
ولندع هذا التفريق الفلسفي ولنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتكئ على الخيال. فلننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال. . فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه؛ أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق؛ بل أن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية). ولا يبني القانون العلمي إلا على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيخيل القانون تخيلاً مبهماً ويضع الفرضية ثم يجربها فأما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسي (أو غيره فلست أذكر) شبه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة؛ فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.