ثم أن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء؛ فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم. . .
أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب؛ ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم؛ فما كان يظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة؛ والكتاب العلمي الذي ألف قبل خمسين سنة، لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته مهما اختلف الأعصار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي؛ كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه، ويتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير
فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
وعد عن هذا. . . وخبرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي تطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟
تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات؛ إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشره بخيره والنتيجة صفر
ودع هذا. . . ولنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلاً. . . لا شك أن العلم سهلها وهوَّنها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟
أحيلك في الجواب على (شبنكلر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاج إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحس بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث