طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنياً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً، ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!
ولنأخذ الطب. . . وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكن ذلك لا يعد مزية للعلم لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة؛ فإذا سرق اللص مائة إنسان، ثم رد على تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟
أنظر في أي مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أوليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض بل هو مسئول عن نشرها كلها؟
وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة؛ فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر. . وكذلك الإنسان في الماضي لم تكن مطاليبه كثيرة فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها؛ أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلا إلى بعضها فهو غير سعيد!
هذا وأنا لا أعني الأدب الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً أو نظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر؛ أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه، لا فرق عندي بين أن تعبر عن جمال