عليه. فكل ما يصيب الفرد الواحد من أحداث، ينتاب الدول والجماعات، والبشرية عامة. فميلاد، وشباب، وهرم، وشيخوخة، ويسر وعسر، وشدة ورخاء. والعوامل التي تؤثر في الفرد الواحد بالغنى والفقر، والبداوة والحضارة، والضعف والقوة، هي التي تؤثر في الدول وفي البشرية عامة، هذا التأثير. وكل حادثة في شرق الأرض، لها أثر وصدى في غربها، وكل واقعة غائبة في جذور التاريخ السحيقة تتفرع وتورق وتزهر فيما يليها من العصور. ويجب على الإنسان ألا يحكم على ما يصيب عضواً من أعضائه إلا بمقدار أثر هذه الإصابة في الجسم كله من خير أو شر. فقد يبتر عضو ليسلم الجسم كله، وتتعب أجزاء لراحة البدن جميعه، وكذلك لا يصح أن يوصف ما يصيب شعوباً أو جماعات من أحداث إلا بالنظر إلى أثر هذه الأحداث في جسم الإنسان العام. وبهذه النظرة، نشعر براحة وتطامن نفس عند قراءة ما يصفه المؤرخون للدول بأنه نكبات وكوارث.
فتهدم بغداد على يد التتار، وتخرب روما على أيدي القوط، جدد شباب العرب واللاتين بإدخال دماء فتية قوية جديدة في عروق هاتين الأمتين.
والحروب المتصلة الجارفة التي لا يخبو أوارها على وجه الأرض، هي من أكبر أسباب التقدم البشري، وهي الوسيلة الفطرية للانتخاب الطبيعي بعد تنازع البقاء وبقاء الأصلح، ليضل الجنس البشري سائراً في مدارج العلا.
والنواميس الطبيعية في عدالتها وسلامة فطرتها، تأبى أن يتحرك جسم الإنسانية جميعه حركة قوية عامة، فيدركه الكلال والتعب والاضمحلال مرة واحدة. وهي كذلك تداول النشاط بين وحداتها لتقوم بدورها، ثم تستريح، ويقوم غيرها. فتضمن بذلك استمرار التقدم والرقي والاستفادة بكل ما في أعضائها من قوى، ومطارح أجزائها من خيرات. فمرة يكون العمل والقيادة لأمم زراعية في أخصب الوديان في الشرق الأدنى والأوسط، وأخرى يكلف بالدر سكان سهوب آسيا وصحاريها، وطوراً يقوم بالعمل سكان أقاصي الشرق في اليابان والصين، حتى إذا كلت الدنيا القديمة ومن عليها، كشفت الدنيا الجديدة في أمريكا، وتولت زعامة الإنسانية والسير بها للأمام.
فانظر - رعاك الله - إلى هذا التوزيع الحكيم للقيادة بالنسبة لأجزاء الأرض وأجناسها. فمرة في شرق الأرض، وأخرى في غربها، وطوراً في باردها وتارة في ساخنها، مع تبادل