اسمه تارة أخرى. ويسير بخطوات مضطربة في منحنيات هذه الشوارع والأسواق التي لا نهاية لها
هاهو ذا قد ثارت ثورته على الحياة وانفجر بركان نقمته من جراء هذا المطر الغزير الذي لا يرحم، والذي ألصق أثوابه المبللة بعظامه ونفذ من حذائه الممزق إلى جواربه
إنه لم يرى حاجة إلى الاحتماء في مكان ما ولم يحاول الهرب من هذا المطر المنهمر وكأنه يريد مطاردته - حتى يخفف بعض أذاه عنه. بل جلس على حافة أحد تلك الحوانيت المغلقة وأخذ يتأمل هذه الطبيعة الثائرة. هذا الشارع الذي يخيل لناظره - من هول المطر وشدته - أنه أمام نهر من أنهار جهنم إبان فيضانه. هذه الأوحال التي تغلي وتقذف بحباب أسود من شدة وقع قطرات المطر. وبينما هو في تأملاته رأى أولئك الذين يسيرون في سكون ودعة مستظلين بمظلاتهم من غير أن تلوث الأوحال أرجلهم، ولا أن تبلل الأمطار أثوابهم. ثم رأى تلك السيارات التي تشق الأوحال وتسير مندفعة كالسيل. لا جرم أن المطر لم يكن له أثر بالنسبة إلى هؤلاء وأولئك. إن أصحاب هذه المظلات وإن أرباب هذه السيارات هم أصحاب هذه الرسائل التي تملأ حقيبته. من يكون هو وما قيمته ومقداره بين هؤلاء وأولئك في وسط هذه الحياة الصاخبة؟ هل جاء إلى هذه الدنيا لمجرد حمل رسائل هؤلاء السادة وتبليغها إليهم؟
إنه لم يعد ينظر إلى الشارع وما فيه، بل حول نظره إلى قطرات الماء التي كانت تتساقط حوله من أطراف ملابسه الممزقة، والى حذائه الذي يخيل لرائيه أنه ينتحب تحت نقاب من الطين!. . .
آه من هذه الرسائل! هذه الأشياء التي تأتي من أي إنسان وتذهب إلى أي إنسان!. . .
كان المسكين في حاجة ملحة إلى رسالة من هذه الرسائل، لأنه لم يتلق رسالة خاصة مدة حياته كلها، بل كان مكلفاً برسائل الآخرين فقط. كان وحيداً لا أهل له ولا أقرباء فأنى له بكتاب يأتيه أو ينتظره؟
وكان كلما فتح هذه الحقيبة التي تملأ كل يوم وتفرغ أو أقفلها أرسل من أعماق قلبه آهة حزينة طويلة. كان يتحسر على هذه الأشياء التي تمر بين يديه كل يوم من سنين طويلة ويتحرق شوقاً إليها. ماذا كان يحصل لو أن أحد هذه الرسائل ـ في الفينة بعد الفينة ـ