الأخوَّة بين المؤمنين لأنها هي الأصل الذي لا يتم معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال:(إخوانكم خولكم) ولم يقل: (خَوَلكم إخوانكم)، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سبَّه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء
ثم انظر كيف قال:(جعلهم الله تحت أيديكم)، (فمن كان أخوه تحت يده)؟ وكيف حرَّر الإنسان من رقبة العبودية القابضة على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمتْه قبضتُه. ثم دَرَج على هذا الأسلوب البليغ حرفاً بعد حرف حتى قال:(فإن كلفتموهم فأعينوهم)، وذلك زكاة القوة التي بها ملك المالك، واستخدم المستخدم. فإذ كان المؤمن قد قوي على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يداً وأقوى قوة
فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد؛ فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم لتتسع بمعنى الجريمة الحيوانية، وتنقبض عن معنى الرحمة الإنسانية الإلهية
فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهدّى النوراني الذي جعل النظام الاجتماعي سموَّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟ هل يمكن أن يفهم العالم حقيقة هذا التطهير التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:(لا قدِّستْ - أي طهِّرت - أمةٌ لا يؤخذُ لضعيفها من قويها)؟