كالقنبلة، قذف بها في حلقه، فما استقرت بإذن الله إلا في معدته، لا تقف في الفم، ولا تمسها الأسنان. . . وطفق أصحابنا ينظرون إليهم ويعجبون، ثم أقبلوا يأكلون كما يأكلون، ولبثت منتظراً أقول لنفسي وأنا أحاورها لأقنعها: من أين تأكلين إذا لم تجاري وتماشي، وتستعدي لقبول كل ما تأتي به الحال؟ وإني لفي تفكيري، إذ حانت مني التفاتة، فوجدت القصعة قد تكشفت، والخروف المسكين قد تناثر لحمه، وبدت عظامه. . . فمددت يدي آكل كما يأكلون، وقد علمت أن شر طعام خير من الجوع، والرز يتفلت من بين أصابعي، والسمن يملأ كفي، فإذا رفعتها إلى فمي، نقط من مرفقي، ولم يكف القوم ما كانوا قد وضعوا من السمن، بل عمدوا إلى كؤوس يحملونها، فملئوها وصبوا ذلك أمامنا، حتى نستطيع من كثرة الدهن أن نأكل، ولم يكن الرز ليستدير في يدي استدارته في أيديهم، بل كان يدخل بين أصابعي، حتى أضطر إلى إدخالها جميعاً في فمي، وغسل وجهي كله بالسمن. . .
وانقضى الطعام. ولا تسألني: أشبعت أم لم أشبع، كيلا يطول سؤالك كما طال في هذه الرحلة عطشي وجوعي
ثم جاءونا ونحن في مجالسنا بطست عليه مصفاة قد وضعوا فوقها قطعة صابون وإبريق يصبون منه على أيدينا، على نحو ما كان يصنع في دمشق قبل عشرين سنة، ولم تكن تلك طريقتهم في الغسل، وإنما يكون مثلها في مجالس الأمراء والمتحضرين من العرب. أما البدو، فيجزئهم الرمل. وقد بلغنا عن بعض البدو في جهات الشام، أنه إذا كانت وليمة أو غداء كالذي نصف، خرج الضيوف فمسحوا الدهن الذي في أيديهم بباب الخيمة. وعندهم أنه كلما ازداد عليها من الدهن ازداد كرم الرجل وفخاره. . .
ثم خرجنا نجول في البلد، وقد علمت أي شيء هذا البلد فاستقريناه كله في ساعة، ثم دخلنا المسجد، فرأيناه داني السقف قائماً على عمد دقاق من جذوع النخل، جدرانه من الطين، وأرضه مفروشة بالرمل، لا بساط ولا (سجادة) ولا حصير، فسألنا متعجبين، فعجبوا من عجبنا، وأنكروا سؤالنا، وكأنهم استخفونا واستجهلونا، لأن من المقرر عندهم (كما علمنا بعد)، أن هذه هي سنة السلف، وعليها مساجد نجد كله اليوم. وأنا رجل سافي وهابي، ولكنني لست من المتمسكين بحرفية النصوص، ولا ممن يأخذها بلا فكر. وأنا أفهم أن المسجد في الإسلام يستحب فيه الخلو من الزخارف التي تشغل عن الصلاة، وتطلب فيه