وهنا منذ أربعة آلاف سنة كان الفكر الإنساني يقطع مرحلته الأولى بينما كان الرقاد الأزلي يغشى سائر الأرض، ويطير متثاقلاً عن جفون يونان وآشور.
وهنا سجل الزمن الواعي على ملس الغرانيت أولى صحائف الفكر، فألهمت اليهود والإغريق في الدين والفن والجمال في شتى ضروبه وصوره. وهنا كانت لبني الإنسان بداية حسنة، لولا أن طغيان الفرد المتحكم، وسلطان الدين المتعسف، قد جعلا لهذه البداية نهاية من الجور والإرهاق محزنة! فها نحن أولاء بين صفين من الكباش المسيخة الجاثية أمام معبد آمون. ومعبد أمون يتلو عليك وحده ان شئت نبأ القوم! فهو أكداس هائلة من ضخام الصخر تنافس في نقلها وركمها الجبابرة في خمسة عشر قرناً منذ سيتي الأول! منها أبواب وحجر، ومنها محاريب وتماثيل، ومنها مسلات وعمد؛ ومن ذلك كله ما هو قائم يتحذى بطوله السماء، وما هو نائم يفدح بثقله الأرض!
أنظر إلى هذه الغابة الكثيفة المخيفة من الأعمدة أتظن الشمس منذ أوقدها الله أشرقت على مثلها في الضخامة والبساطة؟ إلا يذكرك هذا العمود الذي تتفتح فوق هامته زهرة اللوتس العجيبة على علو خمسة وعشرين متراً بصرح (تيتان) الخرافي وأخوته؟
من الذي قطع هذه الأطواد، ووضع هذه الأوتاد، وشاد هذه الأروقة، ونحت من الصوان هذه الآلهة البكم، وخلد الملوك على هذه الحجارة الصم؟؟ هو شعب النيل الذليل البائس! بناها وبنى سواها على قفار الخبز وأُلهوب السوط ونزع الروح، ولا تستطيع أن تصدق وأنت ترى هذه المعجزات أن مصر كانت في مدى ثلاثين قرناً تعمل غير ذلك.
استعبدت فكرة الخلود عقول الفراعنة فاستعبدوا في سبيلها جسوم الشعب، وملكهم حب الآخرة فسخروا له حب الدنيا، وفتنهم متاع السماء فرصدوا له متاع الأرض، وأغرقوا في إعزاز النفس وإيثار الحياة وتقديس العظمة. فأنكروا حرمة العامة، وجحدوا قدرة الموت، وجهلوا معنى الضعة، وخلفوا لأجيال الأبد من يطمح كالملوك، يطمع كالكهنة، ويخضع كالسوقة!
لقد كنا نتجمع حول دليلنا الهاذي في أروقة هذا المعبد المحطم، نطن في أجوافه طنين البعوض باللحون المختلفة: نذكر أوائلنا الذين ارتجلوا للناس لفظ المجد، واقتحموا على الدهر باب الخلد فنزهى ونصلف؛ ونذكر أسلافنا الذين قامت على أشلائهم هياكل أمون،