القبح وتبيان الخلق أو سوئه والتصريح بالمدح والقدح، فيكون ذلك للأدب كالحلي للعروس أو كالحطب للنار) وحد هذا الأدب (حركة العواطف واشتغال العقل والتأسيس على الحقيقة والخيال) فهو - كما قدمنا - غذاء النفوس البشرية الرائقة وحبيب الإنسانية وربيب الحقيقة والامكان؛ فالمحترف بحرفة المادة لا يقدر على دخول جنة الأدب؛ والأديب لا يستطيع الخروج إلى جهنم المادة وما أعفه عن ذاك. فكيف يبلغ امرؤ أن يتردد بين الجنة والنار ويجمع بين السلم والحرب؟ وإذا ما رأينا واحداً قد ألم بالبرزخ تنفح إليه نسمات جنة الأدب من أمام، وتلفحه شرارات المادة من وراء، فهو لا أديب ولا مادي بل صاحب اختيار في الاختبار، ثم يصير إمّا إلى الجنّة وإما إلى النار، فلذلك ومن ذلك قل الأدباء المحترفون لجمع المادة واحتجان البيضاء والصفراء؛ وإنما سميناهم على سبيل أدب القدماء؛ وهم في رأينا (برزخيون) وصلهم الأدب كوصوله لمن قال (وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل) وماتوا وهم في عهد الاختبار والفتن والمحنة. ومن الأدباء من يضطره الزمان إلى الاحتراف فيستدفع الحرفة ضنك الزمان، ولو ترك ونفسه وأنجى من ذل الحاجة ما لجأ إلى الحرفة ولا قاربها. ومن الأدباء المحترفين أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون الخبزأرزي، نسبة إلى حرفته (خبز الأرز) فقد كان هذا أميّاًلا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز الأرز بمربد البصرة في دكان له، وينشد الناس أشعاراً مقصورة على الغزل، والناس يزدحمون عليه، ويطربون باستماع شعره، ويتعجبون من حاله وأمره؛ وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عند البصريين - ينتاب دكانه ليسمع شعره، وقد اعتنى به وجمع له ديوانا؛ وذكره الثعالبي في اليتيمة، والخطيب في تاريخ بغداد، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، وابن خلكان في الوفيات. قال ياقوت:(وكان ممن يفضلون الذكور على الإناث، فكان أحداث البصرة يلتفون حوله، ويتنافسون بميله إليهم، ويحفظون شعره لسهولته ورقته) وقد نزل نصر هذا بغداد وأقام بها دهراً طويلاً وقرئ عليه ديوانه فيها. حدّث الخطيب بسنده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد الأكفاني البصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر وأبى الحسين ابن لنكك وأبي عبد الله المضجع وأبي الحسن السماك في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبزأرزي وهو جالس يخبز على