وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة، تدفعه الى العمل حينا، وكأنها إرادته الخاصة قد ملكت عليه حسه وشعوره؛ فهو لا يستطيع عنها انصرافاً ولا يملك لها خلافاً. وتتمثل له حيناً آخر شخصاً واضح المخايل بيّن الصورة، يلم به إذا إشتمله النوم فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتاً رفيقاً ولكنه ملحّ يملأ أذنيه بقظان، ويملأ أذنيه نائما يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر، وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام، وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، يلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظاً خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم، وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهداّ وعسراّ، فبينما هو نائم ذات يوم أو ذات ليل، أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له إسماً ولا شكلاً وقال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: احفر (طيبة) قال. وما طيبة؟ فأنصرف الشخص وأنقطع الصوت، وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل. وحاول أن يعود الى النوم لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت أو يتبين هذا الحديث ولكن النوم كان قد خاصم عينيه وأنصرف عنه مع هذا الشخص الغريب، ففكر وأطال التفكير، وقدّر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فاكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه. فجلس يرقى ببصره الحائر الى السماء لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا، ويخفض بصره الى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا، ويمد بصره نحو الكعبة لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه بتعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد الى الفتى بصره متعباً مكدودا، وتهوى نفسه الى قرارة ضميره لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا، فلا تجد شيئا، فيشتد بها الذعر ويزداد فيها العجب، ويبقى لها الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.