ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسى كل شيء الا أنه قد مشى كثيراً وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة الى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، قد هدأ من حوله كل شيء واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة (احفر بَرَّةَ) وجسم الفتى هادئ مطمئن ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شقتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة (وما برة؟) فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلاً مذعوراً معجباً آملاً، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة! ويسأل الأرض لكنها ساكنة! ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم! ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه. ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره وحلوه ومره، ويقبل الليل شيئاً فشيئاً فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار، هذا يحدث عن قصور بصرى وعظمتها وهذا يحدث عن الخورنق والسدير وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانين ومكرهم بالتجار وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر في القوم ما حمل لهم من خمر بيسان، وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء؛ ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا فمشى الى بيته متباطئا يود لوفّر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطيف. أنظر إليه! أنه ليتردد أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينه. لم يبق على الشاطئ يقظان يداعب النوم ولا ينام ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع، فان هذه الأمواج المصطخبة أمامه، تستطيع أن تطغي على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها وما استطاعت أن