تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! أنظر أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ! كل شيء مطمئن! فما نبوُّك وما امتناعك؟ هلم الى النوم لا تخف شيئاً! أن هذه الأمواج تريح ولا تغرق، اقبل الى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك فستنس بينهما كل شيء، ومن يدري لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة! وأطبق الفتى جفنيه وأندفع أمامه فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعياً هادئاً كأنه عش على الهواء، حتى إذا دنا يمشي من الفتى قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة (أحفر المضنونة) جسم الفتى هادئ، ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: ما المضنونة؟ فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق الفتى مذعوراً مأخوذاً، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره. لا يرتفع بصره الى السماء ولا ينخفض الى الأرض، ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائراً! وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى الا أني سأجن! لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاءً.
أقبل أيها الصبح أسرع في الخطو، إرفق بهذه النفس الحائرة، هلم الى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص المائلة، فرِّق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها أسرع الفتى الى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئناناً وثباتاً؛ ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون وتشيع في هذه المقالة ويضحك مني حرب بن أمية ولداتُه ويتندر عليَّ فتيان مخزوم؟ كل، ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن الى نفسها في قبور الموتى! وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس، واستيقضت الطبيعة. فإذا أظلم الليل ونام الكون انتشرت هذه الخيالات في الجو فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الى الأرض يروِّع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالاً من هذه الخيالات لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه فهم لا يزورونه، ولا يقربون إليه لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الأنس فتتقاضاهم الطاعة