أنفسهم وغيرهم من قصار النظر أن بيان الألفاظ، وإشراق العبارات، ومتانة النسج، والبلاغة في الأسلوب، وإجراء الشعر على سنن الشعر العربي، أنواع من التزيين والتحلية والزخرف الذي مضى عصره، وانقضى زمنه، وذهب به العصر الجديد، ومحته آية التجديد؛ فملئوا الصحف والدواوين بشعر لا صلة بينه وبين الشعر العربي إلا الصلة العروضية في الوزن والقافية؛ علة أن بعضهم قد يتركهما مبالغة في التجديد، محتجاً بأن ذلك نوع من التقييد؛ على أنهم بعد أن أطلقوا الألسنة والقرائح من قيودها المزعومة، لم يأتوا بالمعجب المطرب في معنى ولا لفظ، ولم يبتكروا غريباً في تشبيه ولا خيال، ولم يخترعوا جديداً في تصوير عاطفة ولا إحساس؛ وإنك لتقرأ ديوان أحدهم من ألفه إلى يائه فلا تظفر منه ببيت يعلق بذهنك فتعيده، ولا معنى يملك لبَّك فتستجيده؛ وسبب ذلك يرجع إلى أنهم لم يقرءوا من الأدب العربي القديم ولا من علوم العربية ما يقوّمون به ألسنتهم، ولم يتعلموا من فحول الشعراء المتقدمين ما يهذبون به معانيهم قبل وضعها في قالبها الشعري، ويميزون به بين المعنى الشعري وغيره من معاني الكتابة والخطابة، فإنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق فني دقيق أن المعنى الواحد تختلف صوره باختلاف تأديته في هذه الصناعات الثلاث، وأن الشعر والكتابة والخطابة كما تختلف في ألفاظها وعباراتها تختلف في تصوير معانيها وأغراضها، فإن الخطيب لا يعمد في تصوير معانيه إلى خلودها على مر العصور، وبقائها محفوظة في الصدور، ولكن يقصد إلى نوع من الإثارة الوقتية يلهب بها حمية الجمهور إلى ما يريده من الأمور؛ فإذا فترت همم الجمهور بعد ذلك الموقف لجأ إلى خطبة أخرى وهكذا، ففن الخطيب فنٌّ وقتي لا فن خالد، ولذلك لم ينقل الرُّواة إلينا من خطب الأولين ومواقفهم في المخاصمات والمصالحات وفي حضرة الخلفاء والأمراء ما يوازي كله ديواناً واحداً من دواوين الشعراء، ولا مجموعة واحدة من رسائل الكتاب. أما الشاعر والكاتب فإنهما يقصدان في تصوير معانيها إلى خلودها وبقائها؛ والفرق بينهما أن قصد الشاعر إلى تخليد أثره أكثر، وحرصه على بقاء فنه أقوى، فهو يضع في معانيه وألفاظه من جمال التصوير وروعة الفن ما يرى أنه كفيل ببقاء شعره وحياته على الزمن
ولذلك كانت رواية الشعر أشيَع، وما نقل إلينا منه أكثر
وأيضاً فإن الكاتب والخطيب يبالغان في تقرير المعنى وتأكيده في الأذهان بإكثار الأمثلة