القمر يضرب بأشعته الباردة الرخية في ضوء المصابيح الداخلية فيشعشعه ويقويه، والمذياع على جدار القهوة ينقل الأغاني المسئومة في فرقعة وصخب، والجالسون يتجادلون في السياسة أو يتحدثون في الأدب، والنّدُل يذهبون ويجيئون وألسنتهم لا تفتر عن ترديد عن هذه الجُمل:(واحد كشَري مظبوط. . . فلوسك يا محمود. . . أيوه حاضر. . . ِولْعَه لمين؟. . . واحد ساده، مستوى زيادة. . .)
وعلى حين فجأة سكت المذياع وانطلقت صفارات الإنذار تردد نعيقها المتقطع، فأطفئ النور، وأخذت الناس زلزلة من الفزع، فنهضوا وتجمعوا ودخل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا دهمتها العاصفة؛ ثم تدافعوا متدفقين في داخل القهوة وهي قبو مظلم مسلوك تحت بيت ضخم من البيوت القديمة؛ وعلى جانبي هذا القبو حجرات ضيقة من غير أبواب للخلوة أو للعب. فدخلت أنا وصديقي إحداها فوجدنا فيها شيخاً هادئاً يكركر، وشاباً مضطرباً يثرثر، وآخرين قد ألجمهم الذعر فهم في وجوم ذاهل. ثم أنصت الناس ونظروا، فلم يسمعوا رعداً يقعقع ولم يروا برقاً يلعلع، فتساير عنهم الخوف، وتذكروا أن القدر لا مفر منه، والقضاء لا حيلة فيه؛ فأخذوا يتنادرون على الصفارات والغارات، ويجددون ما أريق من الأكواب وأطفئ من الشياشات. والمصري أربط الناس جأشاً في الخطوب متى زايلته بوادر الجزع؛ لأن إذعانه لقضاء الله بكسر حدتها عنه، وأخذه المكاره بالمزاح يضعف أثرها فيه. وهو في ذلك كالإنجليزي، إلا أن ثبات المصري يرجع إلى حرارة يقينه، وثبات الإنجليزي يرجع إلى برودة طبعه: هذا يبلد ثم يجلد، وذاك يتفرق ثم يتماسك
ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به بوجه القمر! لقد كان أجدادنا القرويون يقولون:(لم يبق من ليالي الهناء غير ليالي البدر) فهل يصح هذا القول إذا قلناه اليوم؟ إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة. فمن يزعم الآن أن الليل لا يزال لباساً وأن الناس لا يزالون ناساً، فقد جهل أن العالم الحاضر يسوسه الشياطين، فهو يرتكس ليسقط، وينتكس ليموت!
قال لي صاحبي وقد أعلنت الصفارة بصوتها المتصل زوال الغارة الأولى: قم بنا نتلمس الطريق إلى مكان آخر نتنفس فيه من كربة الحر والحرب