كان في مسجد من مساجد دمشق خطيب جهير الصوت، طلق اللسان، معتزل مستور، يعتقد الناس إخلاصه ودينه وتخطيه أهواء نفسه ماشياً قدماً على صراطه المستقيم، صعد المنبر جمعة من الجمع، فاستهل خطبة بآية من القرآن فيها وعيد للكافرين شديد، ومضى من بعدها يبرق ويرعد، ويسوق الجمل آخذاً
بعضها برقاب بعض، وكلها من مادة (كفر يكفر. . .) حتى إذا ظن أنه أقنع وأشبع، وملأ نفوس السامعين سخطاً وغضباً، عمد إلى التصريح بعد التلويح، فإذا الذي انصبت عليه هذه الحمم، ونالته رجوم الشياطين، (رجل تجرأ على دين الله، فتكلم في الداعين إليه، والداعين عليه، ومن رضى عنهم الله وعقلاء خلقه: خطباء المساجد). فلما قضيت الصلاة استقرى الناس الخبر فإذا هو صاحب جريدة كتب مقالاً معتدلاً في الدعوة إلى إصلاح الخطب المنبرية، فبعث الخطيب بمقالة يرد بها عليه فلم ينشرها وإنما أشار إليها، فكان جزاؤه أن تكون الخطبة كلها في ذمه وتكفيره. فانصرف الناس من يومئذ عما كانوا يعتقون في الخطيب ولم يعد وعظه ذلك المبلغ من نفوسهم، وجعلوا يرون فيه خطيباً له (نفس)، وهيهات بنفع واعظ أو خطيب له (نفس). . .
فتعالوا أنبئوني من الذي جعل المنبر ملكاً لهذا الخطيب، يتصرف فيه تصفه بثوبه ودابته، ويجعله سلماً له إلى شهرته وشهوته، وهذا المنبر إرث رسول الله، والخطيب خليفته في الدعوة إلى دين الله واطراح النفس والهوى؟ ألم يرو الرواة أن علياً أمير المؤمنين رضي الله عنه كان يتبع مشركاً (في معركة) ليقتله، فلما أيس المشرك من الحياة تلفت إلى علي فبصق على وجهه، فكف عنه علي، فقيل له، فقال رضي الله عنه: كنت أنوي قتله لله وحده، فلما بصق عليَ خفت أن يكون قد داخلني غيظ منه، فخشيت أن يكون قتليه انتصاراً لنفسي، فلذلك كففت عنه. أليس في هذا الخبر (وإن لم يأت عن الثقات) عبرة وأسوة للواعظين؟ وكيف أستطيع الاتعاظ بالخطيب الذي جاء في خطبته مرة بحديث موضوع، فلما انتهت الصلاة وتفرق الناس أقبل عليه شاب من المشتغلين بالحديث والمنقطعين إليه فذكره بان ذلك الحديث موضوع لا أصل له، فما كان منه إلا أن رجع من الجمعة المقبلة، فجعل خطبته في هذا الشاب وأصحابه (الوهابيين أعداء الرسول. . .) وأثار عليهم العامة