بها النخيل. فكنت أقرن شوقها إلى مصر بالدعاء إلى الله أن يهيئ لهذا المحيا الفاتن أن يتفتح نظيراً في جوها الإِضحيان الطليق
أدينا الامتحان معاً؛ ثم أرسلت نفسي الحشيمة على هواها ومناها، فزرنا معابد الطبيعة في فنسين وسان كلو وفنتينبلو، وحججنا محاريب الفن في اللوفر والأوبرا وفرساي. وكنت يومئذ أترجم (رفائيل) فكان ما أقرأ وما أكتب وما أسمع وما أرى نَسَقاً عجيباً من الجمال والجلال والفن والشعر والحب والتأمل والاستغراق، لا يدع للخيال الوثاب مَسْبحاً، ولا للنفس الطماحة رغبة. ثم أحَمَّ الفراق فرجعتُ إلى مصر ولحقت هي بأهلها في مدينة (رويَّان)
وكان بيني وبينها رسائل مسكية المداد، وردية الورق، تؤلف كتاباً من شعر القلب والعقل تناول فيما تناول الفروق الناشئة بين الشرق والغرب من اختلاف وجهة نظريهما إلى الحياة، إذْ هي في نظر الشرقي دار ممر، وفي نظر الغربي دار إقامة
وفي فبراير من عام ١٩٢٨ زارت مصر هي وزوجها، وهو ضابط فرنسي كان في طريقه إلى عمله في جيش سورية؛ فكنت لهما ترجماناً ودليلاً مدى أسبوعين إلى مخلفات الفراعين، وطلول الفسطاط، وقطائع ابن طولون، وقاهرة المعز. وسنحت الفرصة المرجوة فاجتمع القلبان والذوقان على فتون الشرق الحبيب. ورأيت من (مدام روجيه) عزوفاً قوياً عن الشوارع الأوربية في مصر الحديثة، وولوعاً شديداً بالتجوال في الغورية والنحاسين والجمالية وخان الخليلي، وشوقاً ملحاً إلى استطلاع المجهول، واستكناه الغامض، واستخبار الناس، واستحضار الماضي. وكانت كلما أوغلت في هذه الأحياء، واستبطنت دخائل هذه الأشياء، شعرت بالحاجة إلى زيادة الإِيغال وإطالة النظر وإدامة التقصي، كأنما كانت تبحث عن شيء تعتقد وجوده ولا تراه، ثم قالت ذات مساء وهي على شرفة القلعة تشاهد مغرب الشمس من وراء الأهرام:
رباه!! إن من وراء هذه الآثار التي أجهدها الدهر، وهذه المآثر التي شوهها الجهل، وهؤلاء الناس الذين مسخهم الفقر، لروحاً خفية تبعث من خلال هذه الأغشية الكثيفة هذا الشعاع اللطيف الذي يشرق في هذه الوجوه الشقية المحرومة فيبدد عنها كُرَب العيش
هذه هي روح الشرق الإِلهية المجهولة، فمن زعم أنه يحكم عليها من وراء هذه الأخلاق