وكان مهدها الذي تدرجت في كنفه طفلة عابثة، مستعمرة يونانية في آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حاضرتها مدينة تدعى مليتس، وفي ذلك البلد أضاءت شعلة الفكر خافتة أول الأمر، ثم شاء لها الله أن يمتد نورها ويتوهج حتى يكون في أرض اليونان فلسفة عميقة كانت أساس البناء، جذرا للدوحة التي امتدت فيما بعد قوية مثمرة
في مليتس - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخص شطرا من حياته للتفكير المجرد، الذي يقصد جمع القوت وتوفير أسباب العيش، ولكن فيم عسى أن يفكر ذلك العقل الناشئ؟
بديهي أن يتجه إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالكائنات، والتي تحتويه في غمارها وتملأ عليه شعاب نفسه وحسه، ولم تكن الطبيعة موضوع فلسفته فحسب، بل كان قصيدا ينشد في حماها الخلاب، وكان دينه تسبيحاً لقوتها وجبروتها، وأية غرابة في هذا؟ أليست سنة الحياة أن يبدأ الطفل حياته الفكرية بما يقع تحت الحس ثم يتدرج صاعدا إلى الفكر المجرد؟
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى أعمال الفكر هو هذا التغير الذائب والتحول المستمر الذي يطرأ على الأشياء، فها هو ذا كل شئ، كائنة ما كانت مرتبته في الحياة، يجيء إلى الوجود ليبقى حينا ثم يمضي ويترك الوجود، ولكن يستحيل على الفكر الناضج أن يظن أن هذه الأشياء تأتي من العدم وتنحدر إلى العدم، فليست تدل الظواهر على أن هذا الشيء المعين حينما جاء إلى الوجود، قد بدأ حياة لا يربطها بالماضي سبب من الأسباب، أو حينما يذهب وينقضي قد زال أثرهو تلاشت مادته، إنما تدل الدلائل جميعا على إنها مادة موجودة يطرأ عليها التغيير فتكون اليوم حجرا، وتصبح غدا نباتا يحيا، وقد تكون أنسانا يفكر ويسعى بعد غد، فليت شعري، أو ليت شعر الفلاسفة الأولين، ماذا عساها أن تكون تلك المادة التي تملأ الكون وتبدو في صور مختلفة متباينة؟ تلك هي المشكلة التي حاول فلاسفة أيونيا أن يلتمسوا لها جوابا يقنع ويرضي
وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فانه لن يصادف إلا عددا قليلاً من ألوان المادة التي يجوز لها أن تكون كذلك، إذا لا بد لهذه المادة الأولية المنشودة إلا تكون محدودة الصفات والخواص، وأن تكون مرنة شديدة المرونة في