قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو اصبح صباح، غير الماء؟! فهو أدناها عند العقل الأيوني مأخذا، وأقواها حجة. فليس عجيبا إذ أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، وهو في طليعة الباحثين عن تلك المادة التي نشدها العقل، والتي تتركب منها الأشياء جميعا، وتنحل أليها الأشياء جميعا، ويعلن أن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر، الهم إلا اختلافا في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فهو غاز حينا، وصلب حينا ثالثاً، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
رضى العقل بادئ بدء بالماء جوهرا للكون، ولكنه ما لبث أن أدرك انه مهما يكن للماء من مرونة وحيوية، فان صفاته محدودة، ضيقة، لا يمكن أن تسع كل ظواهر الوجود، وإذن فلا بد للعقل أن يبحث ويجد في البحث عن مادته الأولية التي ينشدها فجاء انكسمندر وقرر حقا أن كل مادة يكون لها صفات بعينها لا تصلح مطلقا أن تكون أصلا للكون، لأن مجرد الاعتراف بصفة ما هو دليل قاطع على وجود نقيضها، فلا يمكن عقلا أن تفهم معنى الحرارة إلا إذا اقترنت ذهنك بالبرودة، ولو تلاشت هذه لذهبت في أثرها تلك، وأذن فيستحيل إن تصف مادة بخاصة معينة إلا إذا كان ثمت مادة أخرى لها صفة مناقضة، وينتج من هذا انه لا يمكن أن يكون الوجود مركبا من مادة تميزها صفات، وإذن فلم يتردد انكسمندر في القول بأن الأشياء جميعا، إنما تفرغت عن مادة لا تمدها حدود، وليس لها صفات، اللهم إلا صفة واحدة هي الثبات وعدم التجول؛ أي الخلود. ولعلها في عنصرها وسط بين الهواء والماء. هكذا يغريك انكسمندر بتصديق منطقه، ولكن ما لبث الإنسان أن وجد في هذا المنطق الخلاب مغمزا وثغرة. إذ كيف تنشأ هذه الفروق الشاسعة بين صفات الأشياء، إذا كانت كلها مشتقة من مادة واحدة لا صفة لها، فبديهي أن تجيء أجزاء هذه المادة الأولى على نسقها وغرارها؛ فلا تكون للأشياء الجزئية صفات كذلك، وأذن فليستأنف العقل بحثه عن ضالته