هنا نهض انكسمينس فخطا بالعقل خطوة ثالثة: إذا كانت مادة طاليس لم تصادف من العقل اطمئنانا، لأنها ليست من الشمول بحيث تسع بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر قد أصابها الرفض لأنها تخلو من الصفات التي تدرك في أجزائها، فما يمنع انكسمينس أن يقع اختياره على مادة ثالثة، فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة انكسمندر: إلا وهو الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت الأبدان والأجسام. أليست الحياة أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ أليس الهواء يملأ الفضاء ويغمر الكائنات ويستحيل إلى صور متنوعة، وهو فوق ذلك أسبق من الماء إلى الوجود، فالهواء إذن هو الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون هذا الشيء، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر.
فأنت ترى من هذا أن الفلسفة في أول صورها كانت لا تعدو في بحثها ظواهر الأشياء وأجسامها المادية، وكيف تريدها على أن تجاوز الظواهر المادية وهي لم تعترف بما وراء المادة من حياة وفكر؟ فالحياة عندها أنفاس مادية لا أكثر ولا أقل
وكان طبيعيا إلا يجمد العقل عند هذه المرحلة من التفكير والنظر، فجاوزها في البحث عن جوهر الوجود وكنهه، لا يأبه كثيرا بالصور المادية التي يتخذها ذلك الجوهر لبوساً مختلفة يظهر فيها للحواس وبعبارة أخرى فقد خلفت الفلسفة وراءها مرحلة طبيعية، لم تكن تنشد فيها إلا مادة ولم تعترف لغير المادة بوجود، واستقبلت مرحلة ميتافيزيقية، تعترف فيها بوجود شيء وراء المادة يدرك بالفكر المجرد دون الحواس. وان كانت الشقة بعيدة بين هذين النقيضين - بين تلك الفلسفة الطبيعية وهذه الفلسفة الميتافيزيقية - لا أن هذه قد اعتمدت على أساس تلك، لأنه إذا كان الخلاف بين الأشياء، هو فرق ما بين التكاثف والتخلخل، إذن فلا يفضل مخلوق مخلوقا آخر إلا من حيث الكمية المادية فحسب، وبعبارة ثانية، فالذي يفرق بين الكائنات اختلاف الحكم، أي في العدد، وإذن فكنه الوجود وحقيقته هو الأعداد، فالكون سلسلة من أعداد تتجمع وتتفرق حينا. ومن هنا نشأت المدرسة الرياضية الجديدة التي كان زعيمها فيثاغورس، فقد ذهبت طائفة الفيثاغوريين إلى اعتبار الأعداد جوهر الكون وأساسه. ومن الواحد خرجت جميع الإعداد، وأن تكن مختلفة متباينة،