إلا إنها لا شك تنطوي جميعا تحت ذلك الفرد. وقد يستوقفك هذا التباين بين الأشياء، فتسأل كيف يمكن أن تجتمع هذه النقائض كله تحت أصل واحد، وأن يكون هذا الأصل هو الواحد الرياضي. كيف يكون هذا الحيوان وذلك الماء وهذه الشمس وما إلى ذلك أشباها تلتقي عند جوهر واحد؟ ولكن هذا الشتيت المتضارب في الظاهر إنما هو أجزاء هذه الوحدة التي أحدثك عنها، أو يحدثك عنها الفيثاغوريون، كما يكون إصبعك وعينك وشعر رأسك وسائر أجزاء بدنك - وهي متنافر الصورة لا يشبه بعضها بعضا - وحدة لا شك في تماسكها واتحاد أجزائها، وتكون في النهاية واحدا
وأحب أن أضع إصبعك على هذا الضرب الجديد من التفكير الفلسفي، لتدرك تطور الفكر مرحلة بعد مرحلة. فالفيثاغوريون لم يعودوا يفكرون في أجسام مادية، هم لا ينشدون مادة الأشياء الاولية، كما فعل طاليس وأنكسمندر وانكسمينس، ولكنهم كما ترىيضربون في الأعماق ويجاوزون هذا الغشاء المادي ليصلوا بتفكيرهم إلى جوهر الكون
ولكن مذهب الفيثاغوريين بدورة لم يسلم من النقد، فهو يبالغ في الإكبار من شأن الواحد، ويصر على أن تكون الأعداد جميعا - أي الأشياء - أجزاء. من ذلك الواحد يحتويها ويشملها كما يحتوي الكل أجزاءه، ولكن إذا كان الفرق بين الأصل وما يتفرع عنه فرقاً عدديا فقط، فبديهي أن يكون الأصل وفروعه في منزلة كيفية واحدة، ولا يكون أمامنا مبرر لتفضيل هذا على ذاك إلا بالفرق في الحكم، أعني انه يجب أن يكون التعدد أصلا وجوهرا تفرع عنه الواحد. إذن لابد للعقل أن يتناول هذا المذهب بالتهذيب والتعديل حتى يتخلص مما يشوبه من تناقض.
نهض اكزنوفنس بشيء من هذا التهذيب المنشور، فليس واحد الفيثاغوريين عنده واحد حسابيا، بل هو الكون بأسرة هو الله الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وهو يصلك عن طريق الحواس، فلا تراه عيناك، ولا تسمعه أذناك، إنما هو حقيقة مجردة تصل إليك عن طريق الفكر المحض.
ثم تبعة بارمنيدس فسار في طريق سلفة اكزنوفنس، وجاوز حده، فلم يكتف بأن يكون الواحد المجرد - أي الله - مصدراً لجميع الكائنات، بل لم يعترف لهذه الكائنات نفسها بوجود الموجود، في الوجود شيء. واحد: هو الله، فليس ثمت مصدر وصادر، ليس ثمت