خالق ومخلوق، إنما الجميع الشيء واحد، هو الله هذا الكائن المطلق، هو وحدة الحقيقة ولا حقيقة سواه، فكل ما ليس إلهاً لا حقيقة له في الوجود. وبديهي أنه لا يتعدد ولا تحده حدود من مكان، ولا يمكن أن يكون خارج نطاق عقل مفكر بحيث يتخذ من هذا الكائن موضوعا للتفكير. ومعنى هذا أنه ينكر على الإنسان أن يضن نفسه حقيقة موجودة مفكرة، كلا بل هناك شيء واحد يفكر ويكون موضوعا للتفكير في وقت معا. فهو لا نهائي، ولهذا لا يجوز عقلا أن يكون هناك من الفراغ ما يشاغله شيء آخر أو إله آخر. وهكذا كانت فلسفة بارمنيس هذه ضربة قاتلة قضت على الآلهة المتعددة التي كان يعبدها معاصروه.
لا حقيقة إذن لهذه الأشياء المتباينة التي يخيل إلينا إنها تملأ الكون، ليس ثمت إنسان ولا حيوان ولا نبات ولا أرض ولاسيما، كل هذه أوهام خلقتها الحواس خلقا من عدم، وأنشأتها إنشاء. باطلا لا يرتكز على صورة خارجية، وهو لا يعلل لنا هذا الخداع الحسي الذي يصيب أفراد البشر جميعاً، ولكنه يأسف لهذا النقص الذي يصور لنا الباطل حقا.
وقد أيد هذا المذهب بعد بارمنيدس فيلسوفان، لم ينتجا جديدا، ولكنهما اكتفيا بالدفاع والتأييد، وهما مليسس، وزبنو، ولكن العقل الذي لا يقنع بقليل ولا كثير، أبي هذه المرة أيضا أن يستكين لهذا الرأي زمنا طويلا، إذ بدا له في منطقة الضعف والتناقص.
لقد علمت الآن أن الفلسفة قد اعترفت بوجود واحد، وكل ما عداه وهم وباطل اختلقته الحواس اختلقا. وليت الدفعة قد وقفت عند هذا الحد، بل جاء هرقليطس، فسار في هذا الاتجاه شوطا بعيدا، فأنكر وجود حتى هذا الموجود الواحد! وله في هذا الإنكار منطق، إلا يكن مقنعا، فهو لا يخلو من ظرف كثير قال إن هذا الكون وما يشتمل عليه من كائنات، في حركة متصلة دائمية، لاتنقطع ولا يصيبها الجمود لحظة واحدة، هو كسيل يهوي من قمة الجبل إلى هاوية السفح، كله تغير وحركة وانتقال، فكلما فتحت ناظريك على هذا المجرى رأيت صورة لم تراها من قبل ولن تراها بعد، لان الماء لا ينتظرك حتى ترسل إليه البصر مرة ثانية، وإذن ففي كل لحظة ينشأ مجرى جديد. ولعلك تدرك خطورة هذا الرأي، فلو صح لذهب علمي وعلمك هباء منثورا. إن كل ما نعلم خيال منحول ووهم ملفق، لأنه إذا كان العالم الخارجي لا يستقر على حال ثابتة، فكيف تصدر على شيء منه حكما من الأحكام، انك أن علمت شيئا عن الكون فما إلا في لحظة بعينها، ولا يجوز أن يكون ذلك