العلم صحيحا على الكون في كل آن. فان الكون سينقلب كونا آخر قبل أن ينطق لسانك بالحكم، كلا، بل قبل أن تدور في رأسك الخلجة الفكرية. انك ترى ملايين الأكوان المتعاقبة، كون يجيء في أثر كون، وإذن فمن الشطط أن تقرر حكما عن شيء من الأشياء لأنه لا يستقر على صفة ولا ولا يبقى على حال. الأمر في ذلك كفلم سينمائي تمر صورة مرا سريعا متداركا، فلا تلبث أن تقول إني أرى الآن صورة كذا حتى تفر مسرعة لتخلي المكان لما بعدها، وإذن فليس في الوجود ثابت كما يزعم الفلاسفة من قبل
هنا نشأت طائفة جديدة - أعني جماعة الذريين - وجاهروا برأي جديد يلائم هذا الموقف الذي خلفة هرقليطس، هم يقررون معه أنه ليس هناك موجود ثابت إذا نظرنا إلى الكون من وجهة الشكل والصورة، ولكن الثبات والخلود في كمية المادة التي يغص بها الكون، فثمت عدد لا يحده الحصر من العوالم، تتكون جميعها من ذرات متشابهة، ولكنها تكون بعد تركيبها كائنات متباينة، كما تتألف الكتب المختلفة من حروف هجائية بعينها، ومع ذلك فليس هي بالمتشابهة. هذه الذرات لا تفتأ تجتمع فتكون هذا الجسم أو ذلك، ثم تنحل وتالف في أسلوب جديد فتحدث كائنا جديداً على هذا الأساس يمكنك أن تدرك معنى التغير والحدوث في الصورة والثبات والخلود في المادة. وبناء على هذا يكون كل شيء في الوجود مؤلفا من ذرات مادية، حتى الروح الذي يدب في الأحياء. فهو عندهم مكون من ذريات دقيقة غاية الدقة، مستديرة أو قريبة من المستديرة. وليست عملية التنفس إلا اكتساب لذرات جديدة من نوعها تسبح في الفضاء. ولما كانت هذه الذرات مبثوثة في أنحاء الكون، فليس من شك في أن الحياة تدب في الكائنات جميعا
بدأت الفلسفة إذن بالبحث عن المادة الأولى التي تتألف منها الأشياء جميعاً، ثم أدركت أن للوجود جوهراً وراء المادة، فالتمسه الفيثاغوريون في الواحد الحسابي، ثم التمس من جاء بعد الفيثاغوريون من فلاسفة آيونياً (جنوبي إيطاليا) في الإله الذي خلق الكائنات، ثم أنكرت الكائنات وبقى الله وحده موجوداً لاوجود لسواه، ثم حام الشك حول ثبات الكون على صورة واحدة، وأخيراً قرر الذريون أن الكون متغير في صورته، خالد في مادته. . . .
تطور سريع في الفكر كما ترى، اسلم العقل إلى حال من الارتياب والشك، ارجوا أن أحدثك عنها في فصل تال.