مجلات تعيش على التقريظ، وقد أدركت هذه المجلات إدراكا صحيحاً هذه الظاهرة النفسية، ورأت أن رواجها يكون أتم كلما ارتفعت نغمة هجوها، وكلما كان نقدها أقذع، وسهامها أنفذ، والجرائد في العالم تبذل المدح بالحبة، والنقد بالقنطار، ومن آية ذلك أن الناس في كل أمة يقدرون (غالباً) جرائد المعارضة أكثر من قدرهم جرائد التأييد، فإذا تغيرت الحكومات وأصبحت جرائد المعارضة بالأمس جرائد تأييد اليوم، نزلت قيمتها من ناحية أنها لم تعد تروي رغبات الناس وشهواتهم.
ثم، مالنقد الأدبي؟ أليس هو الغالب إرضاء لعاطفة البحث عن الغلط والتشهير به؟ إذا مدح النقاد فبحذر وقدر أكثر مدحهم (طعم) يستدرجون به القراء لإقناعهم بأنهم عدول في تقديرهم، منزهون في ذمهم ومدحهم، حتى إذا اطمأن لهم القارئ بالغوا في النقد وأسرفوا في اللوم، واكثر الناشئين من الأدباء يتطلبون الشهرة من طريق مهاجمة النابغين والتعرض لهم، والتسميع بهم، حتى إذا تصدوا للرد عليهم رفعوا من شأنهم إذ جعلوهم في منزلتهم، وقديماً حكى لنا (بشار بن برد) أنه (وهو ناشئ) هجا جريراً فأعرض عنه واستصغره، ولو أجابه لكان كما يقول أشعر الناس. قد يكره الناس الناقد الجريء، ولكنهم يهابونه ويلتفتون إليه ويشجعونه على أن يبني نفسه من أنقاض ما هدم من غيره.
ومن اكبر مظاهر هذه الظاهرة ارتياح الناس للهازئين الساخرين، وما يصدر منهم من هزؤ وسخرية، على شرط ألا يكونوا هم موضع الهزؤ والسخرية، فأوسع أبواب الظرف والكياسة، وأشد ما يستخرج الضحك والإمعان فيه ما لذع به الناس في أعراضهم وأخلاقهم وملكاتهم، والذي يعدّه الناس لطيف الروح خفيف الظل، بارع الظرف، هو من يومئ الإيماءة الفاتكة ويرشح لسانه باللفظ يقتل به البريء الغافل، ويضحك به اللاهي الماجن.
وقد تقام حفلات التكريم للإشادة بصفات عظيم، أو التنويه بما قام به من عمل جليل، ولكن أكثرها حفلات تأبين، تقام بعد أن اختفى المحتفل به عن المسرح وغاب عن الآنظار، أو بعد أن أعجزته السن وخرج من ميدان العمل والمنافسة، أو هي حفلات تجارية أقيمت لمنفعة المحتفلين لا المحتفل بهم. الحق أن هذه العاطفة، عاطفة البحث عن الخطأ وإذاعته والولوع بالنقد أكثر من الولوع بالتقريظ عاطفة تشارك الإنسان في جميع أدواره.
وتعليلها (على ما يظهر) يرجع إلى غريزة الأثرة وحب النفس، كأن الإنسان يرى أن القول