للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعيوب الناس يتضمن القول بتفوقه، والتشهير بأغلاطهم إقرار سلبي بنبوغه، والعمل على تحقيرهم قد ينتج مع الزمن انفراده بالعظمة، والسخرية منهم تستتبع الاعتراف بجلاله وحده.

ولكن المدنية والحضارة، والرقي العقلي والخلقي، تهذب من هذه العاطفة، كما تهذب من سائر العواطف، فالناقد المهذب يكتفي بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون التجريح، يقول ما في نفسه ولكن يتخير الألفاظ ويتخير المواقف، ويترفع عن ألفاظ الغوغاء وأساليبهم، والمقارنة بين الجرائد والمجلات وأساليب النقد في الأمم المختلفة تؤيد هذا كل التأييد.

ولو سار الأمر على المعقول لخف كثير مما يصدر من لوم ونقد، لأن أساس اللوم إمكان المسئولية، فإذا لم تكن فلا لوم، فلسنا نلوم المرضى إن لم يأتوا بأعمال الاصحاء، ولا نلوم البدوي كما نلوم الحضري، ولا نلوم الجاهل بما نلوم به العالم، ولا نلوم الطفل في المدارس الابتدائية إذا لم يحل معادلة جبرية أو نظرية هندسية.

إنما نلوم الإنسان عندما يكون في الإمكان أن يفعل خيرا مما كان، ولو قدر اللائمون تقديرا حقا ما يحيط بالملوم من حالة عقلية وجسمية وبيئة اجتماعية ومن عوامل حفية معقدة يصدر عنها العمل لخففوا من غلوائهم، ولطفوا من لومهم، ولعلموا أن استحقاق اللوم نسبي يرتبط بالسن وبدرجة الثقافة والمدنية وحالة الفرد في أمته وموقف أمته في العالم.

ولو سار الناقد على المعقول، لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس، إن الجاسوس يهمه أن يرى الخطأ ليبرهن على كفايته، ويسره أن يرى العيب ليقبض على فاعله، وكلما أوغل في استكشاف العيب الدفين، وتعمق في إظهار جريمة مستورة، كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب. كأنه يشعر شعوراً باطنياً أنه إرهاص بأن لا حاجة إليه، والمصلح يستكشف العيب لا ليشهر به، ولكن ليعالجه، وأقصى أمانيه ألا يكون عيب، وإذا كان فأن يداوى، ويعتقد أن مهمته تتم، مع السرور، يوم يزول المرض ويتلاشى النقص، وأنه بنقده ولومه إنما يصف دواء يستأصل الداء، ويأتي عليه.

أسوأ ما نرى أن يكون الناقد كالفرس الجموح ينال من الناس بهوجه وخبطه، أو أن يقف في نقده موقف الغر يداعب بالنار، أو الطفل يلعب بالسكين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>