أن مات بعمره، وإذا كان لي أن أنسى فلن أنسى ما حييت يوم أن عدت من قبره أتكسر على نفسي كما يعود القائد المخذول من ساحة الحرب، أحصي المال المتروك فلا أقع على شيء، وأتلمس الأصحاب فلا أقف لهم على ظل، وأنظر إلى نفسي فأجدني كالآلة المعطلة لا أصلح لشأن من شؤون الحياة، حتى ليرهقني سد الرمق في مجتمع صاخب عجاج يتدافع أهله بالمناكب في طلب الرزق، ويقتتلون على الفوز باللقمة الحقيرة، وأن من الصعب على نفسي أطلب العيش من مروءات الناس، وأن أقيم الأود من فضلهم ومعروفهم. لأن ذل السؤال صعب على نفس يجري في عنصرها إباء البادية، وتكنفها كرم النشأة، وقد قيل: إن من طبع الكريم أن يخفى عسرته ويكتم شدته:
يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا ... والوجه غمر بماء البشر ملآن
ويعلم الله لقد كتمت ما استطعت، وصبرت حتى أرهقني الصبر وكنت كل يوم أؤمل في غد فلا يكون الغد إلا أشد. آه يا صاحبي لشد ما ضمني الدهر ضماً لا رحمة ولا شفقة! ولشد ما عركتني الأيام عرك الرحى بثفالها كما يقولون! ولا أكتمك أني فكرت في الخلاص من ذلك بالموت، ولكني خفت أن يقول الناس في شأني: جبان فر من معركة الحياة، ومارق تمرد على حكم القدر؛ وعملت على أن أصل نفسي بموطن العشيرة في البادية، ولكني تذكرت الدم الذي كان مطلوباً به والدي فخشيت الهلاك من تلك الناحية، لأن البدوي حريص على ثأره مهما طال به الزمن، حتى ليطلبه في الأجيال المتعاقبة
فلما اضطرب بي الفكر، وتبلبل مني الخاطر، سألت صاحباً من أهل الرأي لعله يشير بما ينفع، فقال لي: لو ذهبت فتسببت. فقلت: ما لي صناعة، ولا عندي بضاعة! فقال: على كل حال: انك امرؤ فيك ظرف، ولك لطف، وانك لو انحدرت إلى بغداد لا تعدم لك في مجالسها السامرة، وأنديتها الساهرة. فرأيتها نصيحة نافعة من الرجل، وقلت لعل الأخذ بها يجدي، فأني أحفظ عن والدي شيئاً من طرائف الأعراب وقصص البادية. ولقد أكسبتني الحياة السالفة دراية بأداء الحديث، اختار له موضعه، وأخرجه مخرجه، وأعرف كيف أصل به إلى نفس السامع، وأستطيع أن أجري النادرة الطيبة فأهز القلوب وأحرك المشاعر. على أني قدرت في ذلك السفر منأى يسترني عن أخوان أكتم عنهم حالي، ويخجلني أن يروني أتدنى في طلب الرزق، فعزمت على تحقيق الفكرة، ولم يبخل على