الرجل بزاد السفر، وسرعان ما كنت في الركب السائر والقافلة الراحلة.
هبطت بغداد يا أخي أجهل ما أكون بمسالكها ومحلاتها، فأخذت في السير على هدى السابلة، وإرشاد المارة، حتى انتهيت إلى دارة الخلافة، ونزلت بدار الضيافة، وكأن نحس الطالع قد سبقني إلى ذلك البلد الأمين، إذ علمت أن الخليفة المأمون قد حرم الفناء وشدد فيه، وأمسك على الناس أبواب اللهو والاستهتار، فانفضت الملاعب والمشاهد، وأعتمت الأندية والسوامر، وصار ليل المدينة ليلاً محلولكاً مملولا، لا يرن به طاس ولا يحن فيه مزهر، فأيقنت بنحس السفرة وحبوط المسعى، وتمثلت لي الدنيا في مثل كفة الحابل، وهانت علي النفس العزيزة، إذ لم أجد أمامي طريقاً للعيش غير التساقط على بيوت أهل الفضل والخير، أتدسس إلى موائدهم، واتقحم على ولائمهم، وأنف في طريقهم، وأجري في ركبهم، فلم تمض أيام حتى كنت قد وقفت على جميع أعيان المدينة ووجوه القوم، وعرفت مراتبهم في الجود والخير، وتبينت أساليبهم في الحياة ونظام العيش، وعرفوني هم كذلك متطفلا بغيضاً وفضوليا ثقيلا!
فأني لفي يوم خرجت فيه إلى الجسر، علني أجد أميراً أتبعه، أو كبيراً أمتاح من فضله، فلم أذهب غير بعيد حتى رأيت إسحاق الموصلي يتحدث إلى علي بن هشام بكلام يخفيه، فأرهفت أذني أتسمع فسمعته يقول: لقد زارتني اليوم فلانة يا علي، وهي كما تعلم من أحسن الناس غناء، وأطيبهم محضراً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي، فنجلو السمع ونمتع القلب، وننتهزها فترة من فترات العمر التي حرمناها، ونعيدها ذكرى من ذكريات الأيام الماضية، فوعده بالحضور ومضى كل لسبيله. فقلت في نفسي: يا لها من فرصة سانحة لابد أن أحتال في اغتنامها! وأخذت أفكر وأقدر، وأسعفتني الفكرة بالحيلة النافذة، فملت إلى من أعارني الزي النبيل والمركب الفاره، ومضيت إلى منزل علي بن هشام فقلت لحاجبه: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق الموصلي بالباب، فدخل الحاجب وخرج مسرعا يحمل الأذن بالدخول، فدخلت على علي فرحب بي أجمل ترحيب، فقلت له: صاحبك إسحاق يقول لك إنك تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني؟ فقال: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فأمهله قليلاً وإني على أثرك.
فاستويت على دابتي، ووافيت منزل إسحاق، فقلت للحاجب عرف الأمير أني رسول علي