للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بن هشام، فدخل الحاجب وخرج مسرعاً يقول: ادخل يا سيدي جعلت فداك، فدخلت فسلمت، فنهض إلي إسحاق في بشاشة، فقلت: أخوك علي يقرئك السلام، ويقول لك الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير تحقيقاً لوعدك فما ترى؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، ونحن من انتظارك على أحر من الجمر، فبحياتي إلا ما أسرعت

فعدت إلى منزل علي، وقلت للحاجب عرف الأمير أن صاحبه أمرني أن لا أبرح أو يجيء، فقد طال عليه الانتظار، وأضر به الجوع. فأسرع علي فغير ثيابه، وركب دابته، وسار وسرت من خلفه، حتى نزل بباب إسحاق فنزلت معه، وبعد السلام أخذنا مكاننا على المائدة. وإسحاق لا يشك أني أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أني أخص الناس بإسحاق، فبالغ كل في إكرامي وإيثاري باللقمة الشهية، والهبرة الوثيرة. ولما قضينا حق الخوان أو حق البطن انصرفنا إلى الشراب، وخرجت إلينا جارية كأن بشاراً كان ينظر إليها من وراء الغيب إذ يقول:

تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بأرعاد

كأنما صورت من ماء لؤلؤة ... فكل جارحة وجه بمرصاد

ولم تلبث أن حملت عودها وغنت صوتاً فعلت فيه ما أحل الله وحرم، ودارت الأقداح، فشعشعت القلوب، وأيقظت العواطف وأفعمت النفس بالصفو والأنس، وبقينا في هذا حتى هم النهار بالتصرم، وألح علي البول فنهضت إلى الخلاء، فسمعت علياً يقول لإسحاق: ألا ما أخف روح هذا الفتى يا سيدي وما أطيب نوادره! فمن أي وقت كان لك؟ فقال إسحاق: أو ليس هو بصاحبك؟! قال: لا وحياتك ولا أعرف أني رأيته قبل اليوم، وأنه جاءني برسالتك يستعجلني للحضور وقص قصته في ذلك، وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه، فقال: أنها لكبيرة يا صديقي على النفس، طفيلي يستجرئ على فيستبيح النظر إلى حرمي والدخول إلى داري! أبلغنا من الهوان إلى هذا الحد، وبلغت الصفاقة بهذا وأمثاله إلى هذا القدر؟ والله لا بد أن أنتقم. وسأعرف كيف أصون بيتي من كل رذل ثقيل. يا غلمان! السياط والمقارع. أعدوا عدتكم، واحشدوا جمعكم. وقامت في الدار جلبة ارتجت لها الجدران، وارتاعت لهولها الجيران، وكل هذا وأنا في الخلاء أفكر وأقدر؛ وكانت عزيمة صارمة، إذ خرجت على القوم في ثبات واطمئنان، كأني لا أعبأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>