للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بأمرهم، ولا أحفل بشأنهم، وأقبلت على إسحاق فقلت: وماذا بقي من جهدك بعد ذلك؟ ألا ويل لك يا رجل ثم ويل! لقد كان أولى بك أن تعرفني قبل هذا كله، فكنت هونت على نفسك هذا كله؟! قال: ومن تكون؟ قلت أنا - كما تقول - الثقيل البغيض المتطفل الذي اجترأ على بيتك واستباح النظر إلى حرمك. لا: بل أنا الذي أعددت له السياط والمقارع، وانتدبت لضربه الجلادين، وأقسمت بكل محرجة ألا تتركه إلا لحماً من غير دم، وعظماً من غير لحم، ولو علمت الواقع لعلمت أني أنا القادر الذي عفوت، والقوي الذي سامحت، وأني لا أستطيع أن آخذك بجرمك فأدفعك إلى الهلاك أنت وصاحبك دفعاً. فشده الرجل بما سمع، فقال: ولكن بربك ألا أخبرني من أنت؟ قلت. أنا صاحب خبر أمير المؤمنين وعينه والأمين على سره، ووالله لولا تحرمي بطعامك، وممالحتي بحديثك، وأني أعرفك أنت وصاحبك على الإخلاص للخليفة والطاعة له، لتركتكما في عمى من أمري حتى كنت تعرف عاقبة حالك، وإقدامك على ما فيه هلاكك. فنهض إلي الرجلان يسكتاني في استعطاف، ويعتذران في انكسار. وقال إسحاق: فديتك يا سيدي! إنّا لم نعرف حالك، ولم نتبين أمرك، فلنا العذر، ونسألك الصفح، ونضرع إليك في كتمان ما كان، وأنت بنا المحسن المجمل. فوعدتهما بالخير وقلت: لا يخون العهد إلا لئيم وحاشاي. وجاء وقت الانصراف فخلع علي إسحاق ثياباً فاخرة، وأمر لي بمركب نبيل، ودفع إلي بصرة فيها ثلاثمائة دينار، ونهض في وداعي حتى مضيت.

فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون فقال: كيف خبرك يا علي في أمس؟ قالها على حسب ما يجري في السؤال وقد كانت عادته، ولم يفطن لها علي فتغير لونه، وانخذلت به رجلاه، إذ لم يشك في أن الحديث قد رفع إليه، فأكب على البساط يقبله ويقول: يا أمير المؤمنين العفو! يا أمير المؤمنين! الصفح الجميل! يا أمير المؤمنين الأمان! فوالله لن تعود، قال: لك الأمان ولكن بماذا جئت يا علي؟ فأخبره الخبر، فضحك المأمون حتى كاد أن يغشى عليه، وقال: إنه (لثقيل ولكن ما أظرفه)، وأرسل في طلب إسحاق فلما حضر قال: هيه يا إسحاق؟ كيف كان خبرك أمس؟ فأخبره كخبر علي بن هشام، والمأمون يضحك ويصفق من العجب، ثم قال بحياتي ما في الدنيا أملح من هذا، فاطلب الرجل وجئني به. واجتهد إسحاق في ذلك حتى وجدني، فكنت على ما ترى يا صاحبي في المقدمين من ندماء

<<  <  ج:
ص:  >  >>