يجلسون فيه. وكانت المجلات تطل من جيوب معطفه - هذا إذا تذكر ولبس معطفاً، وتدخل الخادمة بالقهوة إليه في الصباح فتتعثر في أكوام من الكتب لا تفتأ تكبر يوماً عن يوم. فهذه الكتب والسجائر الكبيرة الغالية استعانت جميعاً على إفقاره. وتراكمت الكتب أكواماً على أريكة مكتبته فعششت الفئران فيها. وكنت تجده إما قائماً في تلوين باطن حيواناته بأصباغه وتلوين ظاهر نفسه بها، وإما قاعداً ينظر في هذه الكتب. وكل ذي بال تجده في هذه الكتب تجده في رأس إرليش ينضج ويختمر ويستحيل إلى تلك الآراء الغريبة البعيدة، ثم تظل مخزونة هناك حتى تستخرجها الحاجة. هكذا كان إرليش يأتي بآرائه. وإنك لن تستطيع أن تتهمه بسرقتها من آراء غيره، فإنها بين دخولها رأسه وخروجها منه تنطبخ انطباخاً يفقدها كل معالمها الأولى
وجاء عام ١٩٠١ فبدأ العام الأول من أعوامه الثمانية التي قضاها يبحث عن رصاصته المسحورة. ففي هذا العام قرأ أبحاث ألفنس لفران وهو إن ذكرت الرجل الذي كان اكتشف مكروب الملاريا. وكان لفران أخذ في هذه الأيام الأخيرة يشغل همه بالأحياء الحيوانية الصغيرة المسماة بالتريبنسومات وكانت تدخل إلى الخيول فتعيث في مؤخرها وتصيبها بالداء المعروفة بمرض الورك وكان لفران حقن هذه الشياطين المزعنفة في الفئران فوجدها تقتل من المائة مائة. وجاء ببعض هذه الفئران وهي تعاني المرض فحقنها بالزرنيخ تحت جلدها فوجد الزرنيخ قد أفادها بعض الشيء وقتل كثيراً من التريبنسومات التي تعيث بالفساد فيها ولكنه مع ذلك لم ينج منها فأراً واحداً. وإلى هذا الحد وقف لفران
وما عتم إرليش أن قرأ هذا حتى صاح:(هذه فرصة عظمى، هذا مكروب أنسب ما يكون للبحث، فهو كبير يرى في سهولة، وهو يربى سهلاً في الفئران، وهو يقتلها دائماً فلا يخيب مرة واحدة. فأي مكروب خير من هذا في البحث عن الرصاصة المسحورة التي تقتله! فمن لي بصبغة تقدر على شفاء فأر واحد لا أكثر شفاء شاملا كاملا!)